عندما تحدث الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الأمم المتحدة يوم الخامس والعشرين من سبتمبر، وأثار قهقهات الدبلوماسيين الحاضرين بسبب تفاخره، أصرّ ترامب على أنهم لم يكونوا يتهكمون عليه، وإنما يضحكون معه. والحقيقة أنني لم أكن هناك، لذا لا أستطيع الجزم بما كانوا يفعلونه حقيقة في الظاهر، لكن في داخلهم، أنا متأكد من: أنهم كانوا يبكون!
وقد كانوا يبكون من حقيقة أن أميركا التي كانوا يعرفونها ويقدرونها على مدار الأعوام الـ70 الماضية، والتي كانوا يعتمدون على عطائها ونظامها الأمني ويستفيدون منه في بعض الأحيان، قد ولّت. وحلّ محلها أميركا أخرى تختلف اختلافاً جذرياً من وجهتين.
الوجهة الأولى: أن أميركا في ظل الإدارة الحالية لا تعتبر نفسها محرّكاً وحامياً للنظام العالمي الليبرالي الذي جلب قدراً كبيراً من السلام والازدهار والديمقراطية إلى أركان كثيرة في العالم خلال العقود السبعة الماضية أكثر من أي وقت آخر في التاريخ، متحدية بذلك النظام الطبيعي للأمور، الذي ينطوي على صراع الغابة المستمر، والحمائية وحكم الرجل القوي.
والوجهة الثانية: أن أميركا الآن تبدو غير عابئة بالخوض في ممارسة القوة ضد أي من خصومها أو أصدقائها للحصول على ميزة اقتصادية أو جيوسياسية، قلت أو كثرت، وفي الوقت ذاته، مستعدة للتغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان من قبل أي دولة تعتبر صديقة لترامب بصورة شخصية، أو غير مهمة بالنسبة إليه جيوسياسياً.
لكن هل لدى ترامب وجهة نظر؟ أو هل يمكن خدمة المصالح الأميركية بصورة أفضل من خلال التنمر والحصول على آخر بنس من الرسوم الجمركية من كل حليف أو خصم والتصدي للصين والتنكر للمؤسسات التعددية «العالمية»؟ فمثلما أعلن ترامب: «أنا رئيس الولايات المتحدة، ولست رئيس العالم، لذا توقفوا عن ملاحقتي!».
يعتمد الأمر برمته على مدى رغبة ترامب في تطبيق ذلك. فهل سيكون تخلياً هادئاً عن نهج جميع الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ فجميعهم أدركوا أن مصلحتنا بشكل عام هي أن نكون في خدمة النظام العالمي القائم على الديمقراطية، أم سيكون انفصالاً جذرياً عن ذلك النهج؟
لا أعلم بعد.. لكن إذا نظرنا من حولنا سنجد أن كثيراً من الناس في أنحاء العالم يتصرفون وفق مبدأ: «إذا غاب القط، لعب الفأر».
فالقيادة الروسية شعرت بالثقة الشديدة لدرجة الإقدام على تسميم جاسوس سابق في بريطانيا. بينما تم القبض على «مينج هونجوي» رئيس منظمة الشرطة الدولية «الإنتربول»، وهو مواطن صيني، أثناء عودته إلى وطنه في زيارة، ويتم الآن استجوابه بتهم فساد.
وفي العاصمة البلغارية صوفيا، خرجت مظاهرات بسبب اعتقال مراسلين صحافيين، أحدهما بلغاري والآخر روماني، وتم توقيفهما بسبب محاولتهما تسجيل فيلم حول موضوع استقصائي بشأن حرق مستندات ذات صلة بسوء استخدام أموال الاتحاد الأوروبي.
أضف إلى ذلك المراسلين الصحافيين التابعين لوكالة «رويترز» الإخبارية، اللذين حُكم عليهما بالسجن سبع سنوات بسبب «تحقيق صحافي في قتل قرويين من أقلية الروهينجا المسلمة على أيدي أفراد من قوات الأمن والمدنيين». وعلاوة على ذلك، يختفي النشطاء في تركيا الآن بصورة منتظمة من دون محاسبة.
وبالطبع، لا يمكن للولايات المتحدة دائماً أن تجعل العالم أفضل، لكن يمكننا، بأن نمنع قادة أجانب، بالقول والفعل، من ممارسة أبشع صور الظلم، لكننا لا نفعل ذلك. لذا، لا يبدو أن ترامب لديه وجهة نظر. ويكشف ذلك بوضوح «روبرت كاجان» في كتابه الجديد الثاقب، حول دور أميركا المتفرد في العالم، والمعنون: «الغابة تنمو من جديد».
والنظرية الأساسية في كتاب «كاجان» مثلما أوضح في حوار صحافي، هي أنه إذا نظرنا إلى التاريخ الواسع للبشرية، فإن «الديمقراطية هي أندر صور الحكم». لأنه على مدار التاريخ، كانت القوى الكبرى دائماً ما تتصادم، وكانت معظم الشعوب فقيرة باستمرار. وأضاف: «لكن على مدار العقود السبعة الماضية كنا نعيش في أكبر فترة ازدهار عُرفت عالمياً، وشاهدنا ازدهار الديمقراطية على نحو واسع النطاق وأطول فترة سلام للقوى الكبرى عرفناها».
واعتبر «كاجان» أن الأعمدة الرئيسة لهذا النظام العالمي الليبرالي كانت تحول ألمانيا واليابان من نظامين ديكتاتوريين إلى ديمقراطيتين مسالمتين، وبناء نظام تجارة عالمية، ومساندة كل ذلك بمبادئ وقواعد تجارية وجيوسياسية راسخة تمت صياغتها في أميركا، وتحميها القوات البحرية والجوية والجيوش الأميركية. وأفاد «كاجان»: «بأننا لم نفعل ذلك كله بدافع الكرم، أو لأن الساسة قرروا بعد الحرب أن يجعلوا العالم مكاناً أفضل، وإنما نبع ذلك من بحثهم عن طريقة لمنع العالم من الانزلاق مرة أخرى في حرب عالمية أخرى كتلك التي نجونا منها». ولم يكن ذلك إحساناً منهم، ولكنه حساب مجرد للمصالح. فقد علموا أن أي نظام يستحدثونه سيعود بالنفع مئات الأضعاف على أكبر اقتصاد في العالم. وبعبارة أخرى، لم يكن النظام العالمي الليبرالي «نتاج التطور البشري»، كما لو أن البشر تعلموا فجأة بشكل ما أن يعيشوا مسالمين مع بعضهم بعضاً، بحسب «كاجان». وإنما تطور لأن الولايات المتحدة الأميركية، الدولة الأقوى في العالم، ولدت من رحم المبادئ التنويرية، وبعد أن انزلقت في حربين عالميتين في القرن العشرين، قررت استخدام قوتها في نشر تلك المبادئ والحفاظ عليها، ليس في كل زمان ومكان، ولكن في كثير من الأماكن والأزمان.
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»