السر ..ليس هناك سر (1من 3)

التحدي وسعادة «تحطيم الحائط».. ودولة الرّفاه

حين تَابعت إعلامياً «الألتراماراثون»، الذي قام به الدكتور خالد جمال السويدي، مدير تنفيذي بمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، في فبراير الماضي، عبر رحلة استغرقت ثلاثة أيَّام وثماني ساعات من دون توقف من ميناء الفجيرة حتى ميناء زايد في مدينة أبوظبي(نحو327 كلم)، بَدَا إلى الأمر عادياً، وأنه نوع من صناعة نجم ربما يتم تأهيله لمناصب قيادية في الدولة، وأن الفائدة المجتمعية الوحيدة منه، هو التعريف بجمعية «رحمة وجمع التبرعات لها».. فهل كانت رؤيتي هذه صحيحة؟

ما كان لرؤيتي تلك أن تتغيَّر لولا اطِّلاَعِي على كتاب «السر؟!.. ليس هناك سر» لمؤلفه خالد جمال السويدي، الذي تنفرد «الاتحاد» بعرضه في ثلاث حلقات قبل طرحه في الأسواق خلال الأيام المقبلة، وهو يمَثِّل ظهورَ مبدع حقيقي يُطوِّع التجربة الشخصيَّة لصالح المنهج العملي، ويُنْهِي سلطة الجسم على العقل، ويَهْزِمُ في مواقع عدة سطوة الشهوات والمتع على الروح، ويَطرح تجربة ذات أبعاد محلية وقومية ودولية.. تجربة إنسانية تُزْهِرُ فيها تجليَّات الذَّات، وجغرافيَّة الوطن، وعلاقات أهله، لتتلاقى- من منطلق معرفي- مع تجارب البشر الآخرين، بلغة عربية سلسة في متناول الجميع.. وفيما يلي نص الحلقة الأولى:
عندما يبدأ القارئ في مطالعة كتاب «السّر؟!.. ليس هناك سر» لابد أن يستحوذ على عقله السؤال الآتي: أي أمل ذلك الذي يسعى إليه المؤلف من تعريف القارئ بمحصلة تجربته الشخصية والتأمل فيها، لجهة قوله إنه خاض تحدّياً كبيراً بالجري من دون توقف من ميناء الفجيرة حتى ميناء زايد في مدينة أبوظبي، وإنه قبل ثلاث سنوات من خوض غمار هذا التحدي الشاق كان وزنه 128 كيلوجراماً؟

ولمعرفة الإجابة عليه أن يكمل قراءة الكتاب حتى نهايته، وسيجد بالتأكيد أن تجربة خالد السويدي في الجري ليست فقط قطع مسافات على الأرض، وتوظيفاً لزمن يمضي بتوالي الليل والنهار، وإنساناً يحاول الخروج بجد من سيطرة «التشيؤ» والعزلة والاستسلام والاغتراب، ولكنها رحلة في العقل وكسر لجدران الصد، وولادة مشروعة لفكر جديد، يجعل من الخاص عاماً، ويُحوِّل الفعل الفردي إلى مشاركة في المنجز الوطني، ويستحضر من خلال التميز الإماراتي المستقبل قبل وقوعه، ويربط مصير الوطن بتغير الجسد شكلاً ومضموناً، ويوظّف العقل في مجالات الشَّك والظَّن واليَقِين.
والكتاب في عمومه يَشعُّ محبَةً وتفتحاً ومعانقةً للآخر المحلي والعالمي، ويملك صاحبه قُدْرةً على سرد تجربته بأسلوب شائق يبدو أقرب إلى الرواية، لكن من دون أن يفقدها أبعادها المعرفيَّة من جهة، ولا أن تكون غارقة في الأسلوب المباشر المُمِل أحياناً، كما تعودنا في كثير من الكتابات العربية من جهة ثانية، يضاف إلى ذلك الميل في سرد التجربة إلى الأسلوب الغربي في الكتابة، حيث تَنْحُو البداية في الغالب إلى البعد الإنساني.



أَسْرَى الأجسام

لقد قدم المؤلف نوعاً من الكتابة النادرة على مستوى الوطن العربي، وهي مفاجأة بالنسبة لي على الأقل، لما تحمله من مخاطرة، إذ من المعروف، أن يَرْوِي المشاهير من سَاسَةٍ وفنانين ورياضيين سيرتهم الذاتية في نهاية مشاوريهم الحياتية، أو على الأقل عندما تتعمّق تجاربهم، لكن أن يبدأ الكاتب وهو أكاديمي، دكتوراه في العلاقات الدولية من أول تجربة له في المجال الرياضي، فذاك أمر لم نعهده سابقاً في حدود مطالعاتي.

ينطلق خالد السويدي في هذا التحدي الذي خاضه من هدفين، الأول: وطني، يتضمن فكراً إيجابياً من خلال الإقدام على المبادرات، وخوض التحديات الكبيرة، المستمدة دوماً من الانتماء إلى دولة عظيمة وقيادة رشيدة تشجع على المبادرة، والثاني: إنساني، عبر جذب الاهتمام إلى معاناة مرضى السرطان، عبر نشاط «جمعية رعاية مرضى السرطان» (رحمة)، وجمع التبرعات التي تساعدها على أداء رسالتها، ولا شك أن تحقيق الهدفين مهمة نبيلة، وهنا يطرح السؤال الآتي: ما جدوى تسجيل ذاك في كتاب؟
تأتي الإجابة مُفصلة في قول خالد السويدي: «الكتاب وصف لتجربة في تغيير النفس، وهو فكرة ستظل تشغل الإنسان في كل زمان ومكان، وتغيير النفس نحو الأفضل هو حاجة مستمرة لا سقف لها تتوقف عنده، وهذا هو ما دفعني إلى تأليف هذا الكتاب»، والمؤلف اختار الرياضة طريقاً لتغيير نفسه، لأنه كان مهدداً بالإصابة بأمراض نتيجة الزيادة المفرطة في الوزن، ولِنِقْل تجربته إلى أبناء وطنه، وإلى كل من يرغب في تغيير نفسه، بدأ بمساعدة نفسه أوَّلاً على التّخلص من كثير من مشكلاتها.
ويرى الكاتب أن مشكلته السابقة مع البدانة هي مشكلة عدد كبير من الإماراتيين، ومن مواطني دول الخليج العربي عموماً، وخاصة من الأطفال والمراهقين الذين يعمل نمط الحياة الحديثة على ترسيخ عادات غذائية واجتماعية وسمات نفسية تجعلهم أسرى لما يثقل أجسامهم من زيادات مفرطة في الوزن، وما تضيق به أنفسهم تبعاً لذلك من مشكلات معنوية، وما يتربص بهم بعد سنوات قليلة من احتمالات الإصابة بالأمراض الخطيرة التي تُثقل كاهل الدولة أيضاً، وتضع عوائق أمام مسيرة التنمية المتسارعة الخطى.
ولأن البدانة خطر يتجاوز الفرد إلى المجتمع، ومنه إلى الدولة، وبعدها إلى الأمة، فإن التخلص منها يمثل نجاحاً بشروط، ولكنه من دون أسرار، على النحو الذي شرحه المؤلف بقوله:«يتصوَّر كثيرون أن ثمة سراً للنجاح سوف تُمكِّنهم مَعْرِفَته من تحقيق ما يريدون، لكن الحقيقة أنه ليست هناك أسرار، والطريق واضح ومعروف للجميع منذ بدء الخليقة، إذ تكمن داخل كلٍّ منا قدرة على فعل أشياء تبدو خارقة أو مستحيلة لحظة التفكير فيها، والمهم هو أن نُفعِّل هذه القدرة، ونزيل عنها كل ما تراكم عليها من مُثبِّطات ومُعوِّقات صنعناها بأنفسنا، ويكمن الفارق بين إنسان وآخر في مدى الاستعداد لبذل الجهد اللازم لتحقيق ما يطمح إليه، من غير إنكار الفروق الفردية والقدرات التي يهبها الله لأناس من دون غيرهم في بعض المجالات».

دروس الرسول وصَحابته

من ناحية أخرى، يذكر الكاتب أنه تعلم في أربعة أيام فقط ما لم يتعلَّمْه طوال أربعة وثلاثين عاماً وعشرة أشهر وثلاثة أسابيع، هي مجموع عمره حين أنهى التحدي الأكبر الذي اختاره لنفسه، يقول الكاتب:«إذا كان التدريب البدني والعقلي القاسي، الذي خضته خلال 106 أيام، من 18 أكتوبر 2017 حتى 2 فبراير 2018، قدم إليَّ دروساً لا تُنسى، فإن الساعات التسعين، الواقعة بين فجر السبت 3 فبراير 2018 حتى ليل الثلاثاء 6 فبراير 2018، كانت ولادة جديدة لي ولشخصيتي ولعلاقتي بنفسي وبالعالم، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، غير أن الشعور الأقوى كان افتقادي نشوة التغلب على الضعف، وسعادة تحطيم الحائط الهائل الذي قابلني في طريقي فجأة صلداً منيعاً قاسياً، على الرغم من أنني وحدي الذي كنت أراه، وكان أمامي خياران لا ثالث لهما: أن أنهزم، وأعلن استسلامي لجبروته، أو أن أصدمه بكل ما أملك من عزيمة، متحملاً قوة الاصطدام التي تكاد تفتت عظامي، وتُشعل الألم في كل خلية من جسدي كحريقٍ يلتهم حقولاً جافة من القمح».

صدمة العقل هنا تعني الانتصار، وذلك ما قام به السويدي، حتى عاش لحظة لا يزال مأخوذاً بها، وهذا حين تهاوى «الحائط» المتغطرس، وتبدَّد ككومة من الأوراق اليابسة ضربتها ريح عفيَّة، عنها يقول الكاتب: «لحظة سأظل أحلم بها ما حييت، وأسعى إلى استعادتها مرة بعد مرة، لأن النشوة التي تغمر نفسك وروحك خلالها لا تقترب منها أي نشوة أخرى عرفتها في حياتك.. إنها لحظة انتصارك الكبرى، تلك التي لا تشعر بعدها بأنك تجري، بل بأنك تسبح محمولاً على أجنحة لا مثيل لرقتها أو لنعومتها».

التغير الذي حصل في حياة خالد السويدي، حمل عدة مسارات، منها تلك التي ذكرناها آنفا، وأخرى أعمق تجلت في العبادة من حيث هي التزام وتنظيم للوقت واستحضار لسير الصحابة لجهة التأثير فيه بشكل مباشر، وعن ذلك يقول الكاتب:«ارتبطت هذه الفترة التي تغيَّرت فيها حياتي بانتظامي في الصلاة، وحرصي على أدائها في أوقاتها، وأنا أرى أن الصلوات الخمس المُوزَّعة توزيعاً دقيقاً على اليوم أهم صورة لـ «النظام» في العالم، كما أنني عدتُ إلى السيرة النبوية وسِيَر الصحابة خلال السنوات الثلاث السابقة لأقرأها بتوسع وبرغبة في استلهام المعاني التي لم أفهمها من قبل، وخاصة مواجهة «المعاناة الشخصية».

سجن الاستسهال والراحة

مواجهة المعاناة الشخصية، تعني التمرد عن البقاء داخل «منطقة الاستسهال والراحة»، لأن ذلك كما يقول الكاتب «قد يمنح الفرد شعوراً بالأمن والسعادة، لكن هذا الشعور خادع، والأمن الذي يحصل عليه محض وهم، والسعادة التي يتصورها حقيقية هي أكثر الأشياء زيفاً، واعتياد منطقة الاستسهال والراحة، ورفض مغادرتها، يجعلانه ضعيفاً، سهل الكسر أمام أي عاصفة من عواصف الحياة، وما أكثرها، وأشكال المعاناة في الحياة كثيرة، وهي تتربص به عند كل زاوية، وإذا استطاع تأجيلها مرة، فلن يمكنه تأجيلها في المرات الثانية والثالثة والرابعة».

إذن، الخروج من منطقة الاستسهال والراحة، يُمثِّل ضرورة للكاتب، وهذا لا يتناقض مع رعاية الدولة لمواطنيها، لكن الوجه الآخر هو احتمال نشوء أجيال جديدة تعتاد الأخذ المستمر من دون أن ينمو لديها الشعور بضرورة العطاء، فاعتياد العيش في دولة الرفاه، وتلقي «المِنح والهدايا» يمكن أن يسجن كثيراً من الناس داخل منطقة الاستسهال والراحة، وهو ما يُضعف ثقافة التطوع والعطاء والعمل الخيري، وهنا ينبه السويدي إلى مٍسألة في غاية الأهمية، تتمثل في «خشيته من أن يدب نوع من الضعف في نفوس الجيل الجديد، في وقت تحتاج فيه الإمارات إلى القوة لمواجهة تحديات جسام».
هذا الموقف أو الخشية، أو لنقل التوقع المستقبلي، ما كان لخالد السويدي أن يصل إليه، لولا تجربة التحدي التي خاضها، والنابعة أساساً في جانبها التربوي والقيمي، من الأسرة، وعن ذلك يقول المؤلف:«حين أتأمل الآن خلاصات تجربتي الرياضية والإنسانية أجد أن والدي كان يغرس بذورها في نفسي منذ وقت طويل، ربما منذ طفولتي، وما تعلَّمْتُه عن المعاناة الشخصية، ومنطقة الاستسهال والراحة، وكسر الحائط، والنظام المُحكم للحياة، كل ذلك كان والدي يطبِّقه منذ سنوات في حياته الأكاديمية والإدارية، وفي بناء عدد غير قليل من المؤسسات الناجحة، وتنفيذ مهام دقيقة كانت تحتاج إلى قدرات خاصة للاضطلاع بها، وبالقدر نفسه استخدمها في قهر مرض السرطان، الحائط الأكبر والأعنف الذي يمكن أن يواجه أي إنسان»، وأكمل تلك الدروس بأخرى تلقاها من والدته، ممزوجة بحنانها الذي يتدفق صافياً وعذباً ليظلل أيامه ويروي الحاجة الفطرية في نفسه إلى التعاطف والتفهم والأمان.. ولا يزال في تجربة خالد السويدي جوانب أخرى كثيرة، نتابع بعضها في الحلقة المقبلة.

يتبع...
تأليف: د.خالد جمال السويدي
عرض: خالد عمر بن ققه