عندما أعلنت دار الصياد عن إيقاف مطبوعاتها، وبينها جريدة «الأنوار» ومجلة «الصياد»، شعرتُ بحزنٍ شديد. من زمان ما عدتُ من قراء مطبوعات دار الصياد، باستثناء مقالات رفيق خوري في «الأنوار». لكنْ في أذهان جيلنا نحن السبعينيين، فإنّ «الأنوار» هي صحيفة جمال عبد الناصر. وهي ترتبط لدينا بالوحدة بين مصر وسوريا، وبمتابعة الصحيفة والمجلة لجهود الراحل العظيم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في تأسيس دولة الإمارات، وحتى بقيام دولة الوحدة اليمنية عام 1990. وهو زمنٌ عربيٌّ مليءٌ بلحظات الفرح والاعتزاز، وهموم النكسات والخيبات، لكنه زمنُ الحُلُم العربي وآماله وآفاقه حتى لو خالطتْها الهزائم.
هل أُقفلت دار الصياد لانقضاء الحُلُم العربي؟ فالسبب التقني للإقفال هو نفادُ زمان المطبوعات الورقية. وهو تصدعٌ نال حتى من الصحف والمجلات الكبرى في العالم. وهذا أمرٌ لا يمكن تجاهُلُهُ لأنّ وقائعه تتوالى في كل مكان. هو زمانُ «السوشيال ميديا». فحتى الفضائيات تُعاني منه معاناةً شديدة.
المطبوعات الورقية قوامها الإعلانات. فلماذا يعلن رجل الأعمال في ورقياتٍ لا تُقرأ. لكنّ الصحف اللبنانية، وهي صحف خاصةٌ لا تمولها الحكومة، وقليلاً ما تفيد من الإعلانات الرسمية، كانت تتلقى ما يُعرفُ بالمال السياسي، المقدَّم من جهاتٍ تريد تشجيع خطّ الصحيفة المعنية، وتريد التقرب إلى جمهورٍ معينٍ ينصر الخط أو الأيديولوجيا التي تؤيدها الصحيفة. وإذا كان زمن الورق والمطبوعات الورقية يوشك أن ينتهي، فقد انتهى أيضاً التيار العربي أو العروبي الذي كانت مطبوعات الصياد تسير في ركابه. ما عاد هناك جمهورٌ يشتري تلك الصحيفة ويعلن فيها لأنها تُساير ذاك التيار الذي لم يعد موجوداً أو فاعلاً على الساحة اللبنانية على الأقل.
فالذي انقضى ليس زمن الورق وحسْب، بل الزمن السياسي الذي كانت «الأنوار» تعبّر عنه أو تستظلُّ به. وهكذا فإنّ إيقاف مطبوعات دار الصياد ما أحدث حُزناً، بل جدد وذكّر بالحزن القديم، وعلى طريقة الشاعر متمِّم بن نويرة: إنّ الشجى يبعث الشجى، أي أنّ الحزن الجديد يذكّر بالحزن القديم أو المنسي، وهو انقضاء الزمن العربي الثاني. كان الزمن العربي الأول هو زمن الخروج من الاستعمار الغربي. ثم كان الزمن الثاني هو زمن بناء الدولة الوطنية. ولأنّ الأُمَم لا تموتُ وإنما يموتُ الأفراد فنحن ننتظر الزمن العربي الثالث والرابع، لكنّ المعالم ما تزال غير واضحة، والإشارات غير متكاثرة.
ولديَّ ولدى أبناء زماني سببٌ آخر للتوجُّع. فبسبب عراقة الصحافة المصرية واللبنانية، أصبح لدينا بالفعل صحافيون كبار ومتميزون. ومعظم الذين أعنيهم بمصر ولبنان تجاوز الأحياءُ منهم سن السبعين والثمانين. ولكلٍ من هؤلاء شهرةٌ من خلال مقالةٍ أو تحقيقٍ أو رأْيٍ أو تحليلٍ يبقى في الذاكرة ولا ينال منه النسيان. ولكلٍ من هؤلاء أكثر من كتاب. ولا يظنّنّ أحدٌ أن تلك الكتب تكونت من مجموعة مقالات كتبها صاحبها على فترات. بل هي غالباً كتب أو روايات مكتوبة مرةً واحدة، وفيها الكثير من الإبداع والاستطلاع. ويستطيع الواحد منا أن يميّز بين الصحافي أو الكاتب الحقيقي والمحترف، والآخر العابر أو المؤقت. في العادة يتحول غير الأصلي والأصيل من أصحاب الصحف أو كبار محرريها إلى رجل أعمال أو سياسي، بينما يبقى الصحافي على كتابته اليومية أو الأسبوعية مدى العمر. وكلنا يعرف عشرين صحافياً أو أكثر بمصر ولبنان، ممن ثابروا على هذه المهنة التنويرية الصعبة على مدى عقودٍ. هؤلاء لا نريدهم أن يموتوا لاضطرارهم للتوقف عن الكتابة. فالذي يموت منا يموت وحده، أما الموت الحقيقي أو المضاعف فيكون عندما يتساقط أصدقاؤك وأنت شاهدٌ أو مُراقب، إمّا بالوفاة (الضربة القاضية) أو بانقضاء الزمن.
جاء الشاعر المشهور جرير في شيخوخته إلى باب عمر بن عبد العزيز، فأبى أن يستقبله لأنه من زمنٍ آخر، ثم رأى فقيهاً معمماً يدخل إلى مجلس الخليفة بدون استئذان، فصرخ فيه قائلاً:
يا أيها الرجل المرخي عمامته/ هذا زمانك إني قد مضى زمني
نعم، إنه زمن الصخب والسوشيال ميديا، يا أُصلاء الصحافة!

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت