حين تتحوَّل الأفكار إلى مشاريع عمليّة، والرؤى إلى استراتيجيّات، والشعارات إلى تطبيقات، يحدث نوع من التنافس المشروع والضروري بين المؤسسات لجهة تنفيذ السياسة العامة للدولة، وهو ما يبدو ظاهراً هذه الأيام في دوائر أبوظبي الحكومية، حيث العمل من أجل تطبيق شعار«إسعاد المتعاملين»، ضمن اجتهادات عمليَّة تُقدم صيغاً تتناسب مع طبيعة عمل كل مؤسسة، سعياً منها لتعميم السعادة على الجميع دون تمييز، وبالمتابعة يمكن لنا فهم أمرين، الأول: فلسفة الإمارات لمسألة السعادة، لجهة أنها حق للجميع، أي لكل من يقيم على أرضها، وفي ذلك عبرة ودرس للآخرين، والأمر الثاني: التجاوب العملي من المؤسسات الحكومية للسياسة العامة للدولة، وعملية التجاوب تلك تقود إلى ابتكار صَيَغ في التعامل، علينا تثمينها والتركيز عليها إعلامياً ليس فقط لكونها تمنحنا فضاءات جَاذَبة، ولكن لأنها أيضاً محل تقدير من المتعاملين، حتى لو شابتها بعض النقائص.
الكلام النَّظري السَّابِق، له من الشَّواهد الكثيرة ما يؤكده من الناحية العملية.. هنا يمكن الوقوف أمام تجربة شرطة أبوظبي في تحقيق إسعاد المتعاملين، وتحديداً في مركز «شرطة الشَّعبية»، فقد تنّبه المسؤولون هناك إلى ضرورة توفير«الكتاب» للمتعاملين على اعتبار أنه «خير جليس في الأنام»، كما يقول الشاعر أبوالطيب المتنبي، فأسّسوا مكتبة متنوعة شملت كتباً في: السَّيَر الذاتية، والآداب، والسياسة، والدين، والقانون والاقتصاد.. إلخ، صحيح أن المكتبة صغيرة، لكنها ثرية بعناوين على غاية الأهمية، ويبدو أنها اُختيرت بعناية شديدة، وهي مبادرة خاصة، ربما يتم تعميمها على أقسام الشرطة في أبوظبي، وعلى مستوى الدولة مستقبلاً.
هذا النوع مع المبادرات حين يأتي من مؤسسة أمنية كالشرطة يكون له مذاق خاص، لأن توفير الكتاب للمتعاملين ليس فقط توظيف زمن الانتظار بما يعود بالفائدة، ولكنه مخاطبة للعقول واحترام للجميع، بما في ذلك مرتكبو الجرائم والجنايات، وفي المحصلة، فإن وجود مكتبات في أقسام الشرطة، كما هو الأمر في مركز «شرطة الشعبية» يمثل خطوة عملية نحو المعرفة والفكر والتثقيف، وهو يرقى في نظري إلى مستوى الجديد الذي يستحق التقليد، ناهيك على أن القائمين به يستحقون التشجيع والتقدير، لأنهم قدموا اجتهاداً ثقافياً يصحح تلك الصورة النمطية على أقسام الشرطة وأجهزة الأمن بشكل عام على مستوى الوطن العربي كله، إذ ارتبطت برهبة عليهم تفاديها، دون أن يدركوا أنها مهمة جداً في حياتنا لما تمثله من حماية للجميع، ولهذا يجب أن تكون محل تقدير، والخوف منها ضروري لأنها تمثل سلطة القانون، بغض النظر على ما قد يتبعه من تفسير خاطئ لأحكامه وتطبيقاته.
نحن العرب في حاجة ماسة اليوم إلى تقوية الجبهة الداخلية من خلال تقديم الدعم للشرطة لتحقيق عملها على أحسن وجه، خاصة إذا سعت إلى تثقيف أفراد المجتمع خلال الوقت المقتطع لديها أثناء التحقيق أو الانتظار، بما توفره من كتب على النحو الذي ذكرناه سابقاً، كما أنه علينا النظر إلى الأمر من زاوية تقديم أشكال جديدة للسعادة في الإمارات، من خلال الكتاب والقراءة، ربما تكون محل تقليد، محلياً وعربياً في المستقبل المنظور، تماماً مثلما تقوم الأعمال الفنية بتغيير آرائنا حول كثير من القضايا الثابتة لدينا، وأذكر أنني قلت للكاتب الراحل صالح مرسي بعد عرض مسلسله الشهير«رأفت الهجان»، أهمية عملك لا تكمن فقط في الكشف عن دور المخابرات المصرية، وما حققته من نجاحات في صراعنا مع العدو الإسرائيلي، وإنما الأهم من ذلك تصحيح رؤية الشعوب العربية الخاطئة لأجهزة المخابرات.