في بداية فيلم «أغنياء آسيويون مجانين»، يُحفّز الأب الصيني السنغافوري أطفاله الصغار لينهوا طعامهم قائلاً: «فكّروا في كل الأطفال الجياع في أميركا». وأنا متأكد من أن جميع أبناء جيلي من المشاهدين ضحكوا من هذه المزحة، فقد تربينا جميعاً على عبارة: «أنهوا طعامكم.. وفكروا في كل الأطفال الجياع في الصين». وتلك العبارة المقتضبة تضمنت في طياتها رسائل كثيرة: الأولى، والتي يمكن أن يخبركم بها أي شخص اعتاد على زيارة المناطق العمرانية الكبرى في الصين، هي أن الدولة الصينية الثرية في الوقت الراهن، بمنازلها وسياراتها الفارهة ومطاعمها وفنادقها، غنية حقاً، بل إنها غنية بقدر لا يستطيع كثير من الأميركيين تصوره. والرسالة الثانية هي أن تلك اللحظة كان مقدراً لها أن تصبح تحديّاً بين القوة التي تضع القواعد الأساسية للنظام العالمي في القرن الحادي والعشرين.. هذه القوة العظمى هي الولايات المتحدة التي لطالما هيمنت على العالم اقتصادياً وعسكرياً، وبين منافستها الصاعدة الصين. وهذا الاختبار يجري من خلال حرب تجارية متكاملة الأركان لا تزال في بدايتها. ولكن كيف سيبدو هذا الاختبار للإرادات؟
سيبدو مثلما أخبرني مسؤول صيني رفيع المستوى في ندوة بجامعة «تسينج – هو» في أبريل الماضي، وهو أنه «فات أوان» إملاء أميركا على الصين ما تفعله بشأن قضايا مثل التجارة، لأن الصين أصبحت الآن أكبر وأقوى من أن يُملى عليها ما تفعل. وبرغم ذلك يبدو أن الرئيس دونالد ترامب يشكك في قوة الصين، أو مثلما قال في تغريدة له الأسبوع الماضي: «لسنا مضطرين لإبرام صفقة مع الصين، وإنما هم المضطرون لإبرام صفقة معنا».
وأخمن أننا ينبغي أن نكون ممتنين لأن هذه المواجهة مقصورة على التجارة، لكن مثلما قلت، لقد كانت مواجهة محتومة، لأن الصين، مثلما أوضح لي أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في قطاع التكنولوجيا الصيني، «لم تعد شبه ندٍّ، وإنما أصبحت ندًّا». وكما كشفت دراسة حديثة لـ«ماري ميكر» حول أحدث اتجاهات الإنترنت، «قبل خمسة أعوام كانت الصين تمتلك اثنتين من أكبر شركات التكنولوجيا المدرجة في البورصة، بينما كانت أميركا تمتلك 9 شركات، وأما الآن، أصبحت الصين تمتلك 9 من بين أكبر 20 شركة مدرجة هي: علي بابا وتنست وأنت فاينانشيال وبايدو وشاومي وديدي وجيه دي دوت كوم وميتوان وتوتياو، بينما تمتلك أميركا 11 شركة. وقبل عشرين عاماً لم تكن لدى الصين أية شركات تكنولوجيا مدرجة!». وعلاوة على ذلك، أصبح اقتصاد الإنترنت في الصين أكبر من نظيره في أميركا. وأصبح الاقتصاد الصيني في الوقت الراهن أقل اعتماداً على الأوراق النقدية لدرجة أن كثيراً من النساء هناك تخلين عن حمل محافظ النقود، وبدلاً من ذلك يستخدمن الهاتف المحمول مع التطبيقات الإلكترونية، لشراء أي شيء أو حتى التبرع لأحد المتسولين!
معركة الذكاء
وعلى صعيد أداة الخدمات والأعمال الناشئة الأكبر في العالم، ألا وهي: الذكاء الاصطناعي، فتخطط الصين للحاق بأميركا في هذا المضمار وتجاوزها بأسرع ما يمكن، وهي تبلي بلاء حسناً في سعيها. لأنه مع الذكاء الاصطناعي، كلما كثرت البيانات التي يمكن إدخالها إلى الآلات، كلما أمكن تعليمها بدرجة أسرع، وكلما زادت الأنماط التي يمكن معرفتها، واللوغاريتمات التي يمكن كتابتها لتحسين المنتجات والخدمات ولابتكار منتجات وخدمات جديدة. ولأن الصين لديها سكان أكثر من أميركا، وكثير منهم يستخدمون تطبيقات الهاتف المتحرك في حياتهم اليومية، فإن الصين تمتلك قدرة هائلة على جمع مجموعات بيانات عملاقة واستغلالها في تغذية الماكينات أسرع بكثير.
ومثلما يقول «كاي فو لي»، مؤلف كتاب: «قوى الذكاء الاصطناعي العملاقة: الصين ووادي السيليكون والنظام العالمي الجديد»: (إذا كانت البيانات هي النفط الجديد، فإن الصين هي المملكة العربية السعودية الجديدة). والشركات الصينية أصبحت بالفعل رائدة عالمياً في مجالات التعرف على الوجه والصوت، والتي يمكن استخدامها لأغراض تجارية وللرقابة أيضاً. وخلال العامين الماضيين فقط، انطلقت موجة تأسيس للشركات «التكنومالية»، التي تقدم خدمات الدفع عبر الهاتف المتحرك، والإقراض، والوساطة والخدمات المصرفية. كما أن الشركة الأولى والثالثة بين أكبر مصنعي الطائرات من دون طيار في العالم، وهما «دي جيه آي» و«شياومي»، صينيتان. بينما تحتل «باروت» الفرنسية الترتيب الثاني. وفي الوقت ذاته، تُقدم الصين مهندسين وعلماء أكثر بكثير من الولايات المتحدة، ويحققون تقدماً متواصلاً في تعزيز مؤهلاتهم.
وعلى النقيض من ذلك، أصبحت أميركا اليوم زعيمة لا نظير لها عالمياً في تقديم البيانات بشأن دونالد ترامب ومن دونالد ترامب! وفي خضم غيث أخبار ترامب وتغريداته، فإن بعض تصريحات الرئيس الأميركي حقيقية فعلاً، مثل حاجة أميركا إلى مواجهة الممارسات التجارية الصينية. فقد حققت الصين نمواً كبيراً لا يُصدّق خلال العقود الثلاثة الماضية بصيغة شديدة الخصوصية هي: العمل الجاد وإطلاق العنان للرأسمالية والتخطيط الذكي والاستثمارات طويلة الأجل في البنية التحتية والتعليم، لكنها أيضاً استغلت حقوق الملكية الفكرية، ونقل التكنولوجيا قسراً، والالتفاف على قواعد منظمة التجارة العالمية.
ولابد أن نرد، لكن بحكمة!
فتاريخياً، كانت أميركا تستطيع الهيمنة على المشهد العالمي وتوقف قوة صاعدة مثل الصين، ووضع القواعد العالمية، وذلك بكثرة مالها وقواتها وسفنها الحربية وكبريات شركاتها وعلمائها وجامعاتها. لكن ذلك لم يعد ممكناً، لأن الصين أصبحت كذلك كبيرة وذكية في «مجالات الكثرة» هذه. وبرغم ذلك لم يفت الأوان في المجالات كافة. فلدينا ثلاثة أصول ضخمة لا تمتلكها الصين، ومن المستبعد أن تحصل عليها قريباً. وعلينا أن نضاعف الاستفادة من نقاط قوتنا تلك ألا وهي: الهجرة والحلفاء والقيم.
فكثير من أكثر الأشخاص ذكاء وموهبة في العالم لا يزالوا راغبين في القدوم إلى أميركا، بينما لا يمكن للصين جذب أفضل وأذكى الهنود والعرب والفرنسيين والبرازيليين والكوريين من المهاجرين.
وفي حين أن للصين عملاء وزبائن وجيران، لكن ليس لديها حلفاء كحلفائنا مثل كندا والمكسيك والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي مع الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وأستراليا.
وأخيراً، نحن كمجتمع، ندافع، أو اعتدنا الدفاع، عن القيم محط إعجاب الناس، لاسيما كرامة الإنسان وحقوق الأقليات والنساء وفضائل الحرية وقواعد المنافسة العادلة. وفي نهاية المطاف أعتقد أن أميركا والصين سيتعين عليهما سوياً لعب الدور الذي لعبته أميركا وحدها بعد الحرب العالمية الثانية لوضع قواعد للنظام العالمي الجديد، من الذكاء الاصطناعي إلى الخصوصية والتجارة. وسيعتمد ثقلنا في هذه العملية على المواهب التي نجذبها والحلفاء الذين نحشدهم والقيم التي نتبنّاها ونروّجها.
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»