يواجه مواطنو المملكة المتحدة عدداً من الاختيارات الصعبة هذا الخريف، اختيارات تعكس جميعها الفوضى الوطنية التي أعقبت استفتاء يونيو 2016 الذي أيد خروج بريطانيا (البريكست) من الاتحاد الأوروبي. نتيجة ذاك الاستفتاء كانت 52 في المئة لصالح الانسحاب و48 في المئة لصالح البقاء. وقد أيدت كل من إنجلترا وويلز الانسحاب، ولكن اسكتلندا (62 في المئة) وايرلندا الشمالية (56 في المئة) صوتتا لصالح البقاء. وعلى الفور استقال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون من منصبه على اعتبار أنه كان من المؤيدين للبقاء في أوروبا. ثم سرعان ما استُبدل بتيريزا ماي، التي ورثت عنه حزباً يعاني من انقسامات عميقة وبلداً منقسماً على نفسه. ومنذ أن أصبحت رئيسة للوزراء، انصب اهتمام «تيريزا ماي» على شروط انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفي سعيها وراء هذه العملية المعقدة، واجهت الآراء والمطالب المختلفة والكثيرة للاتحاد الأوروبي، وخاصة الجهاز البيروقراطي الكبير للاتحاد الأوروبي في بروكسيل إضافة إلى التحديات من حزبها نفسه ومعارضة حزب «العمال»، وفي محاولة لصياغة معارضة سياسية أقوى في الداخل، دعت إلى انتخابات عامة سابقة لأوانها في 8 يونيو 2017 على أمل زيادة أغلبية حزبها في البرلمان. ولكن الانتخابات كانت كارثة بالنسبة لها. فقد خاضت حملة انتخابية باهتة وضعيفة، وفقد حزبها أغلبيته في البرلمان ولم يتمكن من البقاء في السلطة إلا بدعم من «الحزب الوحدوي الديمقراطي» من إيرلندا الشمالية.
ومنذ الانتخابات الأخيرة، حققت «ماي» تقدماً قليلاً جدا بخصوص صياغة سياسة متفق عليها للانسحاب. كما انسحب عدد من الأعضاء البارزين في قيادة حزب «المحافظين» من حكومتها، مثل وزير الخارجية السابق بوريس جونسون. ولم يحالفها الحظ في إيجاد صيغة متفق عليها مع مفاوضي الاتحاد الأوروبي. اختبارها المقبل سيكون بين 30 سبتمبر و3 أكتوبر أثناء انعقاد المؤتمر السنوي لحزب «المحافظين» في برمنغهام، حيث من المتوقع أن تكون المعارك بين أنصار «بريكست» ودعاء «البقاء» محتدمة، كما أنه قد تكون ثمة تحديات لقيادة «ماي» للحزب. وإذا استطاعت النجاة والصمود، فإن الخطوة المقبلة ستكون القمة الفصلية للاتحاد الأوروبي في 18 أكتوبر، وهو التاريخ الذي من المفترض أن تعالج فيها النقاط العالقة بخصوص اتفاقية الانسحاب مثل حقوق المواطنين، والواجبات المالية، والحاجة إلى الإبقاء على الحدود بين إيرلندا والمملكة المتحدة مفتوحة.
وإذا كان ثمة اتفاق هذا الخريف، فإنه يجب على كل من برلمان المملكة المتحدة وبرلمان الاتحاد الأوروبي التصديق عليه، وفي 29 مارس ستنسحب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي رغم أنه ستكون ثمة فترة انتقالية لسنتين قبل أن تصبح المغادرة نهائية بشكل قانوني. غير أن احتمالات أن تتم هذه العملية بسلاسة ضئيلةٌ حالياً، ومن غير الواضح ما إن كانت «ماي» ستستطيع النجاة كرئيسة للوزراء. والواقع أنها يمكن أن تدعو إلى انتخابات خاصة، غير أن هناك إمكانية لفوز حزب «العمال» بها، بالنظر إلى الصمود المذهل لزعيمه «اليساري» جيريمي كوربن. وفي حال أصبح «كوربن» رئيساً للوزراء، فإنه سيكون الزعيمَ البريطاني الأكثر راديكالية والمناوئ للنظام ول«الناتو» وللولايات المتحدة الذي يصبح رئيساً للوزراء في تاريخ البلاد. كما أنه من المؤيدين لتخلص بريطانيا من قوتها النووية وسبق له أن دعا، في الماضي، إلى إنهاء النظام الملكي، والانسحاب من «الناتو» والاتحاد الأوروبي. ويريد حزبه زيادة الضرائب على الأغنياء وإعادة تأميم المرافق العامة مثل شركات الطاقة والسكك الحديدية. كما وُصف «كوربن» بالمناوئ لإسرائيل ويُتهم بمناصرة أعضاء حزب «العمال» الذين أظهروا مشاعر معادية للسامية.
وكرئيس للوزراء، سيتعين على «كوربن» أن يقرر ما إن كان ينبغي دعم استفتاء ثان حول الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وفي حال انتخابه، سيتعين عليه أيضاً التعاطي مع إدارة ترامب والعديد من الديمقراطيين الأميركيين المرتابين فيه كثيراً. في الماضي، كان الاتحاد الأوروبي كثيراً ما يترك مسألة الاتفاق حول المشاكل الصعبة حتى اللحظة الأخيرة، بالنظر إلى اختلاف آراء أعضائه الثمانية والعشرين، وحقيقة أن كل القرارات يجب أن تتخذ بالإجماع. ولهذا، ففي حال تم التوصل إلى اتفاق بشأن الانفصال في الأخير، وتمكنت «ماي» من النجاة، فإن ذلك سيكون في أعين الكثيرين بمثابة معجزة حقيقية.