أقلّ ما يقال في الموسم الدولي السنوي في الأمم المتحدة أنه بالغ الإقلاق للدول المنخرطة في نزاعات، وللشعوب التي تعاني من القتل والدمار وذلّ اللجوء والتشريد. في العام الماضي كان المناخ متفجّراً أيضاً بسبب الملاسنات النووية بين دونالد ترامب وكيم جونغ اون، لكن الضوابط الصينية لكوريا الشمالية بدت كفيلة بإبقاء التصعيد تحت السيطرة للحؤول دون انفلاته، أقلّه من جانب بيونغ يانغ، فآخر ما تريده بكين حدوث نزاع نووي على حدودها. وفي المقابل أراد ترامب تجريب نهج «التصعيد من أجل التفاوض»، ما ساهم في التهدئة. هذه السنة قد يبدو الصراع الأميركي الإيراني أقلّ تفجّراً في الظاهر لكنه أكثر خطورةً في الواقع. صحيح أن لا تهديد نووياً مباشراً فيه، لكنه يدور على خلفية حروب بالوكالة مشتعلة فعلاً وتنذر بمزيد من المآسي.
وقد دلّت الجلسة الخاصة لمجلس الأمن، برئاسة ترامب، على أمرين: الأول أن الرئيس الأميركي مصرّ على حملته ضد إيران بمعزل عن الحلفاء الأوروبيين المتردّدين وعن الخصمَين الروسي والصيني، فقد توعّد من لا يمتثل للعقوبات بـ«عواقب وخيمة». والأمر الثاني أن إيران نفسها لا تستطيع الاعتماد على الأوروبيين مهما بلغ استياؤهم من ترامب، ولا على دعم الخصمَين الكبيرَين اللذين لا يذهبان إلى حدّ تحدّي واشنطن من أجل طهران.
لم يقتصر ترامب على إعلان عناوين استراتيجيته الإيرانية، وأهمها العزل والعقوبات والدعوة إلى التفاوض، بل تعمّد استخدام لهجة تؤكّد أن ما تريده أميركا هو ما سيكون، مع علمها بأن حلفاءها غير متحمسين لتوجّهاتها. عملياً لا يتناقض موقفا فرنسا وبريطانيا جذرياً مع أهداف ترامب، لكنهما لا تؤيّدان أسلوبه، بدءاً بانسحابه من الاتفاق النووي ووصولاً إلى تشديده العقوبات ورفضه محاولات إقناع إيران بالتفاوض على برنامجها الصاروخي وسياساتها الإقليمية، وهو ما رفضته على أي حال. وكان لافتاً أن إيمانويل ماكرون وتيريزا ماي اعتبرا نقل صواريخ إيرانية إلى «حزب الله» في لبنان والحوثيين في اليمن خرقاً للاتفاق النووي. ففي ذلك مؤشّر إلى أن الاصطفاف الأوروبي إذا لم يكن مع أميركا بكل وضوح فإنه لن يعرقل ضغوطها على إيران.
لا أحد يعتقد بأن العقوبات ستجبر نظام الملالي على الرضوخ، ولا أحد يتوقّع مواجهة حربية مباشرة تطال الأراضي الإيرانية، لكن الترجمة العملية للعقوبات وتوتّراتها ستكون أياماً صعبة للشعب الإيراني، ولم تتأخّر المؤشّرات في الظهور على أكثر من صعيد حتى قبل شروع واشنطن في تطبيق استراتيجيتها. وإذا كان النظام لا يبدي تخوّفاً من الوضع الداخلي، لثقته بأن تركيبته الأمنية وقبضته الشديدة تحولان دون انتظام انتفاضة عارمة وقادرة على فرض تغيير في سلوكه، فإنه بعد التطورات الداخلية الأخيرة لديه، أصبح مضطرّاً لتوقّع مزيد من الاختراقات أيّاً تكن الجهات التي تقف وراءها. ومع ذلك فهذا لن يبقيه مكتوف الأيدي إزاء عقوبات ستمسّ هذه المرّة القطاع النفطي، مصدر دخله الرئيسي. لذلك فالرد الإيراني لابدّ أن يكون في الخارج، معتمداً على الصواريخ البالستية في العراق واليمن، وحتى في لبنان حيث أعلن «حزب الله» امتلاكه أسلحة متطوّرة وصواريخ دقيقة.
ما أصبح مؤكّداً أن واشنطن باتت مصممة على الربط بين سياساتها في الدول الأربع التي تمارس فيها إيران أدواراً عبر ميليشياتها. فإبقاء الحضور الأميركي في سوريا، مثلاً، أصبح مرتبطاً بـ«إخراج إيران» منها.
لم يعد الوهن الاقتصادي والمالي ليساعد طهران في الحفاظ على نفوذها وأدوارها، لكنه قد يقودها إلى أسوأ المغامرات وأخطرها، فميليشياتها لا خيارات أخرى لديها سوى الامتثال لأوامرها حتى لو كانت انتحارية. ربما تعوّل إيران على تحوّلات روسيا في دورها السوري وتقاربها مع تركيا والنافذة المفتوحة لها في العراق إذا أرادت استغلالها، أي أن هناك ما يغري روسيا وحتى تركيا بدعم خطط «إخراج أميركا»، لكن لموسكو، وكذلك لأنقرة، سياسات وحسابات لا تنسجم بالضرورة مع الأهداف الإيرانية. يبقى لطهران خيار التفاوض مع أميركا لكنها تريد استباقه بإثبات قدرتها على التوتير والتخريب، وكلّما تأخّرت تراجع موقفها التفاوضي.