عـُرف الرئيس الفلبيني «رودريجو دي تيرتي» بمواقفه المتصلبة منذ أن وصل إلى قصر «ملاقانيانق» الرئاسي في يونيو 2016. وقد تجلى ذلك داخلياً بمواقفه المتشددة من عصابات المخدرات والشخصيات العامة الفاسدة والمجرمين ممن هددهم علناً في خطبه الجماهيرية بالقتل وإلقاء جثثهم في البحر. كما تجلى في سياساته الأمنية الصارمة حيال جماعة أبوسياف وتنظيم «داعش» وغيرهما من الجماعات الإرهابية ممن استولوا في منتصف عام 2017 على مدينة «ماراوي» كبرى مدن جنوب البلاد المسلم. أما خارجياً فقد تجلى ذلك في ردوده غير الدبلوماسية على الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، يوم أن تحدث الأخير عن حقوق الإنسان المهدرة في الفلبين على خلفية إعدام حكومة دي تيرتي للمجرمين ومهربي المخدرات من دون محاكمة.
غير أن مثل هذه المواقف المتصلبة لم تظهر إزاء الصين التي تحتل أراضي تطالب مانيلا السيادة عليها في بحر الصين الجنوبي، وفي مقدمة هذه الأراضي شعاب سكاربور (التي يطلق عليها الصينيون اسم «جزيرة هوانغيان») التي لا تبعد عن سواحل الفلبين سوى مسافة 160 كيلومتراً بينما تبعد عن الساحل الصيني مسافة 800 كيلومتر، على الرغم من لجوء مانيلا في سنة 2013 إلى عرض الموضوع على محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي لاستصدار حكم بموجب قانون البحار الأممي (علماً بأن محكمة التحكيم المؤسسة في عام 1899 هيئة مستقلة عن محكمة العدل الدولية، لذا قاطعت بكين جلساتها وزعمت أنها غير مخولة بالبت في الخلاف، مضيفة أنها لن تلتزم بقراراتها).
وهكذا قامت أحزاب ونواب المعارضة الفلبينية بتوجيه انتقادات لاذعة للرئيس «دي تيرتي» واتهمته بالجبن والتخاذل، والتساهل في حماية الأمن القومي الفلبيني. هنا نأتي للتساؤل عن أسباب هذه السياسة «المتخاذلة» إزاء الصين. فهل السبب يا ترى خشية الزعيم الفلبيني من قوة الصين العسكرية وتهديدات الأخيرة ضد أي دولة من دول جنوب شرق آسيا تتجرأ المس بما تعتبره حقوقاً شرعية لها في سلسلتي جزر باراسيل وسبراتلي والمياه والصخور والشعب المرجانية المحيطة، خصوصاً بعدما أنزلت الصين قواتها الجوية الضاربة وقاذفاتها ذات القدرات النووية على إحدى الجزر المتنازع عليها وهي جزيرة «وودي» التي يسميها الصينيون جزيرة «يونغشينغ»؟
أم أن «دي تيرتي» يحاول من خلال سياساته المتساهلة تلك التودد للصينيين من أجل أن يحصل على دعم اقتصادي لبلاده المنهكة اقتصادياً مقارنة بشريكاتها في منظومة «آسيان» الجنوب شرق آسيوية، بالإضافة إلى دعم عسكري كبديل للمعونات العسكرية الأميركية المشكوك في استمرارها إلى الأبد؟ أم أن الرجل يحاول أن يكون واقعياً، فيبتعد عن التصرفات الشعبوية، حفاظاً على سلامة بلاده وأرواح مواطنيه الذين يزدادون يوماً بعد يوم إلى أن وصل عددهم الآن إلى مائة مليون نسمة؟
الحقيقة أن كل هذه الأسباب مجتمعة يبدو أنها ألحت على الرئيس الفلبيني اتخاذ مواقف أقل تصلباً من بكين. ففي خطاب له في مايو المنصرم في احتفالية بمناسبة الذكرى 120 لتأسيس البحرية الفلبينية قال رداً على منتقديه: «إنني لا أستطيع في هذا التوقيت أن أذهب إلى الحرب، ولا أستطيع أن أدخل في معركة لا أستطيع الانتصار فيها، وتسفر فقط عن الدمار وربما الكثير من الخسائر لقواتنا المسلحة». وفي هذا بدا واقعياً جداً، ذلك أن الجيش النظامي الفلبيني بكل عتاده وعديده وخبراته وتدريباته على أيدي الأميركيين لم يتمكن من تحرير مدينة «ماراوي»، ودحر حفنة من الإرهابيين إلا بعد شهر من الأعمال القتالية وتدمير البنى التحتية، فما بالك بمواجهة جيش يضم أكثر من 1.6 مليون عنصر ويمتلك ترسانة ضخمة من الأسلحة التقليدية والنووية مثل الجيش الأحمر الصيني.
قد يقول قائل، بل قيل بالفعل، إن المسألة مسألة «كرامة وطنية». لكن الكرامة الوطنية ليس معناها أن تدخل حروباً من أجلها من دون بصيرة واستعداد ووعي تام بقدرات خصمك. فالعديد من الأنظمة الثورية واليسارية في العالم العربي والعالم النامي كابرت واستخفت ذات يوم بقوة خصومها فخاضت حروباً من أجل ما سمته بـ «الكرامة الوطنية»، فكانت النتيجة وبالاً عليها وعلى شعوبها، وهذا ما يريد «دي تيرتي» تفاديه.
وفي محاولة منه لتخفيف حدة الانتقادات الموجهة إليه داخلياً، وخاصة من قبل النائبة «ريزا هونتيفروس» التي طالبته بمراجعة العلاقات الثنائية الفلبينية ــ الصينية، وعد الرئيس الفلبيني باتخاذ إجراءات دبلوماسية «لحماية مطالب الفلبين الإقليمية».
وإذا افترضنا أن لموقف «دي تيرتي» علاقة بالتودد لبكين من أجل التسليح، فهو أيضاً صحيح. ودليلنا أنه ألغى في نوفمبر 2016 صفقة شراء أسلحة خفيفة من الولايات المتحدة لصالح قوات الأمن الفلبينية كرد فعل على تعليق واشنطن لمبيعات الأسلحة للفلبين بحجة انتهاك الأخيرة لحقوق الإنسان، بل قال حينها إن الصين على استعداد لتقديم الأسلحة المطلوبة بنفس الجودة وبأسعار أقل. وفيما ينتظر الرئيس الفلبيني أن تكافئه الصين على موقفه المتساهل منها بضخ استثمارات مليارية في الفلبين كما تفعل مع دول بعيدة، تحل الذكرى السنوية للتحكيم الدولي الذي جاء لصالح مانيلا في عام 2015، وتزداد الضغوط عليه لاستثمار هذا الانتصار في التصدي لما تسميه قوى المعارضة «نزعة توسع وهيمنة صينية في جنوب شرق آسيا»، خصوصاً وأن بكين اعتبرت قرار التحكيم مجرد ورقة نفاية لا قيمة لها، وراحت تغير طبيعة الجزر المتنازع عليها وتستغل ثرواتها بصفة أحادية.