يختزل سيّد، إحدى شخصيات فيلم «الاختيار» الذي أُنتج في عام 1970، المواجهات المصيرية التي يجب علينا الوقوف أمامها بقوله، إن الإنسان في النهاية سيُواجِه نفسه فقط. ويبدو أننا الآن نعيش إحدى هذه المواجهات، إذ نواجِه فعلًا أنفسنا، ووجودنا، ولغتنا، ومبادئنا، ما يفرض علينا حسم خيارنا: أسود، أو أبيض، لأن المناطق الرمادية لا وجود لها في النهايات، والتمسُّك بها وبالآراء الضبابية سيُفقِدنا أنفسنا قولاً واحداً.
ولا بدَّ من الاعتراف بأن الأحداث المعقَّدة، مهما تعددت، تتراوح عادةً بين البينين: أسود، وأبيض. وأما الأفكار، فالتعقيد غير موجود فيها، وذلك لأن الانحياز الفكري أبسط من أن يحتمل هذا التعقيد، ولا سيما أن المطلوب تحديد رأي واحد فقط، ولذلك يعتمد اختيار عناوين البرامج والإنتاجات عامّةً على دقة الكلمة، وأحادية المعنى، واستبعاد اللبس، لأن العنوان أول ما يلفت نظر الجمهور أو المتلقي، وقد يمثل سببًا رئيسيًّا لنجاح البرنامج أو العمل.
وهنا نتساءل: كيف نجعل إنتاجاتنا الفكرية والفنية تقارب حقيقتنا؟ وهل تحاكي أعمالنا المشترك العربي بيننا؟
يحتاج الخطاب الإعلامي إلى التدقيق أكثر من حاجته إلى التحديث، فالحداثة المطلقة تؤرق النفس والوجدان. أما التدقيق، فيُحسّن التعبير، ويميّز الخطاب العربي من الخطاب العالمي المهيمن والمتداول بشكل واسع من دون تبرير أو تفكير. ولا شكَّ في أن التطابق بين الظاهر والباطن في أعمالنا المطروحة عنوان عروبتنا، فلنا تعبيرنا، وللآخرين تعبيرهم أيضًا.
وفي هذا الإطار يمكن القول، إن عنوان فيلم «الليلة الأخيرة» جاء مناسباً جدّاً لفكرة الفيلم، وذلك لأن الشخصية الرئيسية مرّت بصراع داخلي بسبب الذاكرة الانتقائية، ولم ينتهِ هذا الصراع إلا عندما واجهت نفسها -كما في فيلم «الاختيار»- وأدركت أن شخصيتها الحقيقية كانت «نادية»، لا «فوزية». ويذكر الخبير طاهر البهي، في حواره مع فاتن حمامة، أيقونة السينما، وكمال الشيخ، المخرج المعروف، أن هذا الفيلم حاز مكانة لامعة في السينما المصرية والعربية، وعُرِض في «مهرجان كان» عام 1964. وكان موقف المخرج -بحسب تصوره للأحداث- معارضاً للتدخل الخارجي في حل المشكلة، سواء كان حلًّا قانونيّاً أو غيره، لأنه يرى أن مواجهة حقيقة النفس أزمة داخلية، وحلها مسؤولية الإنسان وحده، ما يرسِّخ فكرة المواجهة.
ففي نهاية العام الماضي (2023) أعلن متحف «بيتسبرغ» في ولاية بنسلفانيا الأميركية تأجيل معرض الفنون الإسلامية المقام تحت عنوان «كنوز وزخارف» لمدة عام بسبب الحرب على غزة، ولكنَّ إدارة المتحف -بعد الاستياء الكبير الذي أحدثه ذلك القرار- عبَّرت عن ندمها الذي لم ينبع من فكرة التأجيل في حد ذاتها، بل من الفَهْم الخطأ الناتج من تعبيرها غير الواضح، وهنا يتجلَّى لنا نوع من التخبط الذي يسببه الانحياز. ونرى أن عناوين ومسميات بعض البرامج المتحفية تعكس معانيَ وأفكاراً معينة، فمثلاً يعتقد الغرب أن كلمة (زخارف) -الواردة في العنوان- أصلها يوناني، أو سرياني، علمًا أن كلمة (زخرف) مذكورة في مَواضع عدَّة من القرآن الكريم، و(المزخرف) هو المزيَّن ظاهريّاً. وأما كلمة (الزينة)، التي تعني الجمال في الظاهر والباطن، فنجد أن أصلها موجود في القاموس الأكدي (المسماري) بلفظ (زانوا). 
نلاحظ أن المواقف والسرد المهيمِن للآخر يكون بما يناسبه في بعض الأحيان، وبما يُضبّب رؤية غيره في أحيان أخرى.
إن التطابق بين الظاهر والباطن هو عنواننا من خلال أعمالنا المطروحة. لنا تعبيرنا وللغير تعبير خاص به أيضاً، فعندما نذكر عصر التنوير الفكري ندرك أن المدة الخاصة بنا مختلفة عن عصر التنوير لدى الآخرين، بل حتى أمثالنا المتوارثة تختلف عن أمثالهم، فالمتعارف عندنا أن الكتاب يُعرَف من عنوانه، في حين أن الغرب يقول: لا تحكم على الكتاب من الغلاف (العنوان). ونظراً إلى أن السمات المُغايِرة أمر طبيعي بين الناس، فإن الوضوح يُعد أمراً مهمّاً لنختار إلى مَن ننسب.
إذن علينا نحن كمبدعين ومشاركين في شتى المجالات، تجنب التناقضات وتلافيها، لئلا نقع في تنافر بين الباطن والظاهر، وعندئذٍ سنصل إلى الوضوح مع حقيقة النفس، الذي ينقلنا إلى التوافق التام بين بعضنا بعضًا، ومع الآخرين.

الشيخة/اليازية بنت نهيان بن مبارك آل نهيان*
*سفيرة فوق العادة للثقافة العربية لدى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)