للعلوم الإنسانية حيويّتها في مراقبة الموروث بمسافةٍ علمية محددة. مراقبة ليست معادية بالضرورة، ولا مؤيدّة وإنما دارسة وفاحصة. إنها النقلة الكبرى في تاريخ العلوم الحديثة. وآية ذلك أن جلّ ما ننعم به من تطوّر في ميادين الدراسات والعلوم مرده إلى التطوّر في هذا المجال وذلك على ضربين، أولهما: نحت المفاهيم التي لازالت فعّالةً إلى اليوم، وثانيهما: الورش الدرسية القوية التي تعصف بالجامعات بالعالم لتفسير العلوم الإنسانية ودرس تحولاتها، ولهذا التحوّل صور عديدة.
رأى الفيلسوف جان دوفينيو في دراسةٍ له حول صور التطوّر للعلوم الإنسانية أن هذا العلم ليس فكرة بسيطة.
لم يكن من البديهي - كما يرى - أن يحاول الناس إقامة «قوانين» للسلوك الفردي، بل كان لا بد للوصول إلى ذلك، من مسار طويل عبر القرون، وذلك لأن «الفلاسفة» أو «المفكرين» قد حاولوا، منذ القديم، البحث على وجه الخصوص عن «أفضل» أشكال التنظيم الاجتماعي أو السياسي. وكانت هذه الأشكال تلائم الفكرة التي يكونونها عما ينبغي أن تكون عليه ظروف الناس، دون الانشغال بواقع التجربة، كما هي في الواقع الحي: لكن، هل يستطيع الإنسان أن يتساءل حول وجوده، إذا لم يتساءل أولاً عما فعل عملياً في العالم؟ وإذا لم يندهش تجاه مشروعية القوى أو الأحداث التي تقع له، والتي يبدو أحياناً أنه مراد لها؟
الإجابة لديه تقول إن ثمة بعض الصور التي هيأت ما ندعوه «المجال الإبستمولوجي» لعلوم الإنسان. يمكن اختصار قوله ومساره التحليلي بهذه الصور:
الأولى: تنبثق في القرن السادس عشر، عندما انفصل الأوروبيون عن ماضيهم الخاص. ولم يحدث ذلك من دون قلق. «اعرف نفسك بنفسك». ما هو الإنسان؟ تلك كانت هي الفكرة التي سيطرت على فكر القرن الذي تشكل فيه العالم الجديد للإنسان.
الثانية: بزغت لدى روسو، وأحياناً لدى بعض معاصريه في القرن الثامن عشر من «فلاسفة الأنوار». لا يكفي أن نتساءل:«من أنا؟»، بل يحسن أن نعرف كيف شكل الإنسان العالم الذي يعيش فيه بنفسه وبواسطة قدراته الخاصة.
الثالثة: فرض «أسطورة النحن» نفسها بعد «أسطورة النفس». الـ«نحن»، الجماعة، المجموعة البشرية بتوتراتها وبيقيناتها الحادة والانفعالية، وأمجادها الحربية: الـ«نحن» الذي داهم باريس في فترة «الانتفاضة الجماهيرية» لسنة 1792 بعد أن تسببت في ظهور «أول أمة فتية» خارج أوروبا، أي في أميركا، وهي الولايات المتحدة. والتي أصبحت مركز الثقل في كل سياسة، وفي كل أخلاق، وفي كل تاريخ.
الفكرة أن العلوم الإنسانية جزء من حيويّة ما وصلت إليها البشرية، إن انتقال الإنسان من ذئبيته الأولى وغاراته وطبيعته اللعينة إلى الترويض وسكنى المفاهيم القانونية، وضبط مفهوم الدولة له طويلة وشاقة، وآية ذلك أن الكثيرين ينتفضون من سطوة القانون، فله هيبته لأنه منع الإنسان من الإغارة على أخيه الإنسان، بل جعلته منساقاً نحو الانضباط، إما بالاضطرار أو الاختيار، وهذه إحدى أهم النقلات التي رتبت سير البشرية من «حالة الطبيعة» إلى المدنية الحديثة.
*كاتب سعودي