كان هناك زمن كانت فيه عملية الحصول على المعرفة تتطلب جهداً ووقتا. كان المثقف لديه «زوادته» من المعرفة التي يحصل عليها بالقراءة والبحث والدراسة، ولديه أيضاً مخزون لا ينتهي من الأسئلة التي تتوالد كلما توغل في المعرفة أكثر.
أنا من جيل لا يزال يتذكر أن أقصى أحلام مَن يحبون القراءةَ في وقته كان اقتناء ما يقدر عليه من أجزاء دائرة المعارف، ومن الكتب التي كانت مُلكية ثمينة وكانت إعارتها واستعارتها خاضعتين لقواعد صارمة، وكان التبادل المعرفي منافسة محمودة تتجلى في جلسات الجدل التي لا يتحدث فيها إلا مَن تملكوا تلك المعرفة.
حتى الصحافة (أي الصحف والمجلات والمطبوعات الدورية) كانت انعكاساً لهذه الحالة المعرفية، فالصحف كانت تقدم الثقافة بوجبات مهضومة ومطبوخة بعناية، لا وجبات سريعة على طريقة «التيك أوي».
كانت الروزنامة السنوية في معظم العالم العربي توزع «إضاءات» معرفية قصيرة وسريعة على ظهر كل ورقة يومية، وكان القائمون على تلك الومضات السريعة لجاناً من متخصصين في المعرفة يحققون في كل معلومة.
أما اليوم فاختلف كل شيء، وصارت المعرفة مساحة ميوعة لزجة تم تعكيرها بالتزييف والحشو الفارغ، وصارت الأدوات سهلة عبر الإنترنت، وصار يمكن لأي شخص أن يتنطع من خلف شاشة صماء بحجم راحة اليد، ويقدم نفسه كصاحب معرفة، ويختلق المعلومة الخاطئة وينشرها. فوضى المعلومات، ولا أقول المعارف، تجتاح فضاءً شاسعاً يتحكم في كل ما نكوّنه من آراء على أرض الواقع، وهذا خطر كبير على مخزون المعرفة البشرية.
الخطر الأكبر يكمن في توليد الأزمات والحروب والصراعات عبر هذا التضليل الافتراضي، وكما قيل فإن قام مجنون ورمى حجراً في بئر، فإن ألف عاقل لن يستطيعوا إخراج الحجر. وهكذا في عالم التواصل الاجتماعي الذي لم يعد تواصلاً ولا اجتماعياً بقدر ما هو أدوات تضليل معرفي وتزوير للوعي الإنساني السليم.
وعالمنا العربي أولُ ضحايا هذه الفوضى الافتراضية، لأن التأسيس المعرفي لم يكن قوياً ولا صلباً في مواجهة هذا الدفق المعلوماتي الضخم، ومن هنا تأتي أهمية إعادة تأهيل منظومة التعليم بما يتناسب مع الواقع الجديد، وكي تصبح قادرةً على استخدام أدوات المعرفة الرقمية لمواجهة كل هذا الجهل.
منظومة الإعلام أيضاً تتحمل مسؤولية ضخمة، وهذا يتطلب منها تأهيلاً مكثفاً، وتلك مسؤولية الحكومات في نشر مفهوم الشفافية في المعلومات لدحض الشائعات، والشفافية لا تكفي وحدها، بل لا بد من تطوير أدوات معالجة المعلومات بطرق منهجية تحترم عقل المتلقي والقارئ.
ليس هناك أسهل من تلفيق قصة تاريخية ما، سياسية أو اجتماعية، يكون أحد أطرافها شخصية عامة، ويتم قذف القصة في فضاء التواصل الاجتماعي فيتلقفها المفترسون المتعطشون للفضائحية، ويعيدون نشرها بمتواليات خوارزمية متسارعة لتصبح هذه القصة الملفقة حقيقة لا يدحضها أحد، ويتم تشكيل الرأي العام كله عليها لتنتهي الحالة بأزمة مبنية على باطل، وواقع مبني على افتراءات.
لا مواجهة إلا بالوعي المعرفي، والقصة تبدأ من التعليم الصحي والسليم.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا