في التاريخ أحداثُ تُعتبر في حينها، أو بعدها، غير عادية، ودورة مؤتمر الأطراف في اتفاقية المناخ «كوب 28» واحدةُ منها. فما أُنجز فيها ليس قليلاً، ويمكن أن يمثل بدايةً جديدةً للدورات المقبلة بعد الجهود الكبيرة التي بذلها منظمو الدورة ورئاستها اعتماداً على رؤية واضحة. ولهذا أمكن التقريب بين مواقف كانت متباعدة، وإيجاد أرضيات مشتركة بدت من قبل بعيدة المنال، ومن ثم التوصل إلى اتفاق تاريخي بشأن قضية الوقود الأحفوري.
لم يحدث في أية دورة سابقة أن أُعلن عن اتفاقٍ في اليوم الأول. لكنه حصل في «كوب 28» بخصوص صندوق معالجة أضرار التغير المناخي. وكانت تلك الانطلاقة التي خلقت شعوراً عاماً بالتفاؤل نتيجةَ جهودٍ بذلتها رئاسةُ الدورة في اجتماعاتٍ عدة خلال الأشهر التي سبقت انعقادها. وساعدت تلك الانطلاقة في تحقيق تقدم على عدة صُعد، لعل أهمها موقع النفط والغاز في عالم الطاقة المستقبلية. فقد أُدير الحوار الصعب حول هذا الموضوع بمهنية وبراعة حتى الساعات الأخيرة من صبيحة اليوم التالي لآخر أيام المؤتمر. ولهذا أمكن التوصل، للمرة الأولى، إلى صيغةٍ عادلة هي التحول عن الوقود الأحفوري Transition Away from Fossil Fuel. ويعرف المُهتمون بقضايا المناخ كم كان صعباً الاتفاق على تعبير Transition Away، وليس أي من التعبيرين اللذين اقترحهما بعض الأطراف وهما التخلص التدريجي Phase Out والخفض التدريجي Phase Down. وهذه المرةُ الأولى التي يُتفق فيها على صيغة مُوحدة بشأن التعامل مع الوقود الأحفوري.
وليس في هذا الاتفاق فوزٌ للبعض وخسارةٌ لآخرين، بل مكسب جماعي. فالمُعالجة الموضوعية لقضية الوقود الأحفوري تبدأ بالسعي إلى الجواب الصحيح عن سؤالين أساسيين، أولهما هل يمكن الاستغناء عن النفط والغاز في أي مدى منظور، ومن يتحملُ المسؤولية عن أزمة طاقةٍ كبرى قد تؤدي إلى انهيار الاقتصاد العالمي في هذه الحالة؟ أما ثانيهما فهو عما إذا كانت المشكلة في النفط والغاز أم في الانبعاثات التي تنتج عنهما؟
وحين يكون النقاش علمياً بمنأى عن الشعارات البراقة، كما حدث في «كوب 28»، لا يكون صعباً التوافق على صيغةٍ موضوعية وعملية تُيسّرُ العمل الجماعي لتطوير مكونات سلطة الطاقة المستقبلية، وزيادة الجهود في اتجاهين، أولهما السعي إلى تقليل الانبعاثات الناتجة عن النفط والغاز، على أساس أن المشكلة فيها وليست في الوقود نفسه. فانبعاثاتُ غازيْ ثاني أُكسيد الكربون والميثان هي التي تُسهم في تسخين الغلاف الجوي. والاتجاه الثاني هو العمل على زيادة مصادر الطاقة النووية. وقد تعهدت أكثر من 20 دولة من بينها دولة الإمارات خلال «كوب 28» بزيادتها إلى ثلاثة أمثال المُستخدَم منها حالياً بحلول عام 2050. وكلُها دولٌ لديها إما محطات لإنتاج الطاقة النووية أو قدرات تتيح إقامتها.
وعلى هذا الأساس صارت معالم سلة الطاقة المستقبلية أكثر وضوحاً من أي وقتٍ مضى، الأمر الذي يجعل «كوب 28» بدايةً جديدةً بالفعل في جهود مكافحة تغير المناخ على أساس التوازن بين المصالح والحقوق.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية