توقف البنك المركزي الروسي في العاشر من أغسطس الجاري، وحتى نهاية العام، عن شراء العملات الأجنبية من الأسواق المحلية، لكنه في الوقت نفسه سيواصل بيع العملات الأجنبية المرتبطة باستخدام التمويلات من صندوق الرفاه الوطني الروسي (صندوق ثروة سيادي) وذلك في محاولة للجم تراجع سعر صرف العملة الوطنية، والذي تجاوز 100 روبل مقابل الدولار، وهو أدنى سعر له منذ 16 شهراً، عندما بلغ مستواه الأدنى في الأسابيع الأولى لبدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في فبراير 2022. وقد خسر 25% من قيمته منذ بداية العام الحالي، حتى أصبح بين أسوأ ثلاث عملات في الأسواق الناشئة لجهة الأداء، مثل الليرة التركية والبيزو الأرجنتيني.
ويحدث هذا التطور في ظل موجة تقلبات مالية أطلقتها الحرب المستمرة، وهي تعكس سلسلة تحديات، لا تقتصر على الروبل الذي يغذي التضخم، بل تشمل عجز الميزانية الحكومية، مع الخوف من استدامة الإنفاق المكلف على الدفاع، وانخفاض عوائد الطاقة، خصوصاً وأن هذا العجز تجاوز في الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي مستهدفات الحكومة للعام بكامله، وارتفع (وفق أرقام وزارة المالية) بين يناير وأبريل إلى 3.42 تريليون روبل (45 مليار دولار)، وتراجعت الإيرادات بنسبة 22% إلى 7.8 تريليون روبل، بينما ارتفع الإنفاق بنسبة 26% إلى 11.2 تريليون روبل، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وأظهرت وثيقة حكومية أن روسيا ضاعفت هدفها للإنفاق الدفاعي إلى أكثر من 100 مليار دولار، أي ما يعادل ثلث الإنفاق العام. وتقدمت وزارة المالية بمقترح لتخفيض نفقاتها في ميزانية العام المقبل بنسبة 10%، لخفض الفجوة التمويلية، وتوفير الأموال لإنفاقها على الجيش والأمن القومي.
وسبق لسعر صرف الروبل، مع بداية الحرب الأوكرانية وتنفيذ عقوبات أميركية وأوروبية غير مسبوقة استهدفت النظام المالي الروسي، أن تراجع إلى نحو 135 مقابل الدولار، حيث فقد نصف قيمته. لكن موسكو ردت بخطة دفاعية شملت سلسلة إجراءات وضوابط مالية، أهمها الحد من خروج الأموال والاستثمارات الأجنبية، ودفع ثمن مبيعات النفط والغاز بالروبل نفسه، وكذلك دفع أقساط ديون «يوروبوند» المستحقة. وساهمت هذه الإجراءات في استعادة قيمة صرف الروبل ليسجل 76 للدولار، بعد شهر ونصف من بدء الحرب، وبذلك تمكنت موسكو في العام الماضي من المحافظة على نظامها المالي، رغم العقوبات الغربية.
وكانت روسيا، حتى بدء العملية العسكرية في أوكرانيا، تستخدم الدولار واليورو بشكل أساسي لموازنة ميزانيتها، لكن بعد العقوبات أعلن البنك المركزي الروسي أن سياسته النقدية للفترة بين 2023 و2024 تمضي في إمكانية تطبيق آلية لإعادة رفد صندوق الرفاه الوطني البالغ حجمه 155 مليار دولار بعملات الدول الصديقة. مع العلم بأن الروبل كان يتقدم في تعاملات روسيا التجارية مع شركائها، وفي عام 2021 تمت تسوية 53.4% من جميع مدفوعاتها مع الهند بالروبل، مقابل 38.3% فقط بالدولار، كذلك استحوذ اليوان على ثلث عمليات تسوية المدفوعات من روسيا إلى الصين.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية انعقاد قمة دول «البريكس» في جنوب أفريقيا الثلاثاء المقبل، والتي ستؤكد على تعزيز التعامل بين دول المجموعة (روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا) بعملاتها المحلية وتسهيل المدفوعات مباشرةً من دون التحويل إلى الدولار، خصوصاً أن القمة ستبت بطلبات انضمام 22 دولة، وقد تبحث في إطلاق عملة موحدة على غرار العملة الأوروبية (اليورو)، حتى أن بعض التقارير تكهنت بتسمية العملة الجديدة «بريك»، مع الإشارة إلى أن روسيا والبرازيل الأكثر حماساً لإطلاقها.

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية