«إسلامية المعرفة» أو«أسلمة العلوم» هي فكرة متقدمةٌ في فكر جماعات «الإسلام السياسي»، وكان طبيعياً أن تأتي متأخرةً زمنياً عن كثيرٍ من الطروحات والأفكار والمفاهيم التي تبنتها تلك الجماعات عبر عقودٍ من الزمن.

ابتداءً فأحد أهم أركان فكر وأيديولوجيا «جماعة الإخوان» وجماعات «الإسلام السياسي» قاطبةً هو «التربية والتعليم» والسعي للسيطرة على هذا المجال والتغلغل فيه في كل الدول، التي وصلتها هذه الجماعات والتنظيمات إنْ كان في مؤسسات «التعليم العام» أو «التعليم العالي» على حدٍ سواء، وواقع الدول العربية والمسلمة ملئ بقصص هذا التغلغل والاستغلال والتشويه بما يغني عن التفصيل.

في الستينيات والسبعينيات، وبعد سقوط الخطاب القومي العربي والخطابات اليسارية، وفي خضم هذا التغيّر والتأثر والتأثير بالأحداث العالمية والإقليمية والداخلية، علمياً وسياسياً وثقافياً، برزت في «الصحوة الإسلامية» كما يسميها أصحابها قبل خصومها ظاهرة «الأسلمة» وهي موجودة قبل هذا التاريخ وإنما الحديث عن بروزها، والأسلمة هي جعل الشيء إسلامياً بعد أن لم يكن، وجعله «إسلامياً» يختلف عن جعله «مسلماً» فالإسلام شيء «والأسلمة» شيء مختلفٌ، الإسلام دينٌ و«الأسلمة» أيديولوجيا، أيديولوجيا تسعى لأسلمة كل شيء في العلم والحياة والمجتمعات لتجعله «إسلامياً» بعد أن لم يكن، وهي ظاهرة واسعة الحضور والتأثير، ومجالاتها واسعةٌ والمؤلفات فيها غزيرة الإنتاج مدعومةٌ مادياً بشكل ضمن لها الانتشار، ففي «التاريخ» سعت لـ «أسلمة» التاريخ، وكتبت في «التاريخ الإسلامي» و«إعادة كتابة التاريخ» وفي الأدب سعت لـ «أسلمة» الأدب وظهر تيار «الأدب الإسلامي»، وفي الاقتصاد سعت لـ «أسلمة» الاقتصاد، وظهر تيار «الاقتصاد الإسلامي» وفي الإعلام ظهرت ظاهرة «الإعلام الإسلامي» وأخيراً، في المعرفة ظهر تيار «أسلمة المعرفة» وهذه جميعاً تياراتٌ خرجت من «الصحوة الإسلامية» وإن لم ينتم بعض عناصرها لجماعات «الصحوة» تنظيمياً.

التأثير الفكري والتنظيمي للتيارات الماركسية والشيوعية واليسارية عموماً على كل حركات الإسلام السياسي ظاهرة كتب عنها الكثير، من حيث هي تيارات أيديولوجية شمولية، وقبل «الصحوة الإسلامية» وتياراتها فقد ظهر لدى تيارات اليسار فكرة «مركسة العلوم»، وهي إعادة بناء العلوم الإنسانية بما يتوافق مع الأيديولوجية الماركسية الشمولية، وينقيها من التوجهات الليبرالية الرأسمالية، و«الصحوة الإسلامية» تبعتهم في ذلك التوجه كما تبعتهم في غيره.

وقبل هذا كله، فهي مسبوقةٌ تاريخياً بتجربةٍ أقدم كثيراً، والمتمثلة في محاولات الأوروبيين لـ «تمسيح المعرفة» أو«تغريبها» إبّان لحظة انتقال الحضارة العربية إلى أوروبا وظهور «التيار الرشدي» نسبة إلى الفيلسوف والفقيه «ابن رشد» ومحاولات إخفاء الأثر العربي والمسلم على العلوم وتجاوزه إلى الإرث اليوناني، وقد سبب ذلك الانتقال الحضاري والمعرفي إشكاليات كبرى في الفكر الغربي حينذاك بوصفه «معرفة غازية» وكان له أثرٌ في صراعات طويلة مع السلطة الدينية ممثلة في «الكنيسة» ما أجبرها على التطور عبر القرون.

ومن قبل ذلك أيضاً فـ «إسلامية المعرفة» أكثر اتصالاً بتجربة المسلمين الأوائل بعد توسع ظاهرة الترجمة في العهد العباسي، وترجمة الفلسفات اليونانية والشرقية، ونشوء علم الكلام، وإبداع كثير من علماء المسلمين وفلاسفتهم في تطوير تلك العلوم ونقدها والبناء عليها، وتلك قصة طويلة. أما في الزمن الحديث فقد جرت لدى الأمم الشرقية في الصين واليابان والهند تجارب شبيهة، فقد تعرفت هذه الأمم على «الحضارة الغربية» عبر «الاستعمار» و«العلم» وجرت محاولات لـ «تبويذ المعرفة» أو«هندوسيتها» ولكنها لم تلبث أن خفتت ولم يبق منها شيء غير «العلم» و«المعرفة» بوصفها معطى إنسانياً تتم الاستفادة منه وتطويره كلٌ في مجاله وتخصصه من دون التعلّق بمهمة مستحيلة تستنزف الجهود لعقودٍ من الزمن. أخيراً، فهذه بعض الخلفيات المهمة عند تناول موضوع مثل «أسلمة العلوم» أو «إسلامية المعرفة».

*كاتب سعودي