سجلات الحفظ الرقمية هي الذاكرة الجماعية للبشرية. المشكلة الرئيسية للمجتمعات الرقمية هي من يجب أن يتحكم فيها؟ وكيف؟

يصدر صوت طنين مستمر من مبنى كان لكنيسة في سان فرانسيسكو. إنه صوت مئات المراوح التي تعمل على تبريد مئات خوادم أجهزة الكمبيوتر التي تحفظ حياة الماضي الرقمي. إنه أرشيف الإنترنت الذي يحتوي على أكبر مجموعة في العالم لصفحات الإنترنت والتي تذكرنا باستمرار بهشاشة ماضينا الرقمي. كذلك فإنه سيحدد، أحد ميادين المعارك في صراع متنام سيحدد طريقة امتلاك وتبادل وحفظ الذاكرة الجماعية للبشرية أو فقدانها إلى الأبد، بفضل حكم صادر عن محكمة اتحادية بأن ممارسات الأرشيف في إعارة الكتب تنتهك حقوق الناشرين.

أعرف كباحثة متخصصة في البيانات الرقمية أن ليس كل ضياع للبيانات أمر مأساوي. لكن قدراً كبيراً من فقدان البيانات اليوم يحدث بطرق ظالمة بشدة ولها تداعيات هائلة بالنسبة للثقافة والسياسة. فالقليل من المنظمات غير الهادفة للربح أو المكتبات الرقمية التي تحظى بدعم عام قادرة على العمل على النطاق المطلوب من أجل دمقرطة التحكم في المعلومات الرقمية. الأمر الذي يعني أن القرارات المهمة بخصوص كيفية تنفيذ هذه القضايا متروكة لشركات قوية هادفة للربح أو لزعماء سياسيين لديهم برامجهم.

إن فهم هذه القوى خطوة ضرورية لإدارة وتخفيف والسيطرة على ضياع البيانات في نهاية المطاف والظروف التي تتذكر في ظلها مجتمعاتنا وتنسى. وتختفي البيانات بمعدلات مزعجة مع قيام منصات البث بحذف البرامج الرقمية فقط من مكتباتها ووقف التمويل الحكومي لشبكات المكتبة الوطنية والآثار المترتبة على مركزية التكنولوجيا. أبلغني «بريوستر كال» مؤسس أرشيف الإنترنت، أنه بسبب ضغط الحكومات أو بسبب الأخطاء، تتعرض البيانات غالباً للحذف على نطاق واسع. وأقام الناشرون التقليديون دعوى قضائية على سجل الإنترنت بسبب ممارسات الإعارة التي يجريها.

وأصدرت المحكمة حكماً يمنع السجل من إعارة الكتب التي تتمتع بحماية حقوق الملكية. وهناك استئناف لكن المحكمة أيدت الحكم الذي قد يقوض قدرة السجل والهيئات المماثلة على الدفاع عن وصول الجمهور للمعلومات. كل ثورة تكنولوجية تنطوي على خسارة. واليوم تكرر المجتمعات الرقمية تلك الأنماط التاريخية للخسارة والإهمال والفوضى. لكن هناك قوى جديدة وديناميات جديدة دخلت إلى المسرح. فالمجال العام الآن تحت رحمة شركات التواصل الاجتماعي. وفي كل يوم تحصل شركات مثل أمازون وألفابيت وميتا على بياناتنا وتقوم بتحويلها إلى أصول ثم تقوم بتسييلها بموجب هياكل غامضة للرضا.

وحقيقة أن القرارات الرئيسية بخصوص الحفاظ على البيانات أو تدميرها في يد لاعبين يستهدفون الربح أو لديهم طموحات للسلطة أو أهداف ذاتية أخرى لها تداعيات هائلة ليس فقط بالنسبة للأفراد وإنما أيضاً للثقافة عموماً.

وكان لكثير من حالات ضياع البيانات تداعيات بالنسبة للإنتاج الثقافي، وكتابة التاريخ وممارسة الديمقراطية. بعض السياسيين - ومن بينهم الذين يشرفون على تمويل السجلات الرقمية – لديهم علاقات غامضة مع أفضل ممارسات للاحتفاظ بالسجلات. وواجه مسؤولون بريطانيون اتهامات في المحكمة لحذفهم تطبيقات للتراسل لتجنب المراقبة والمحاسبة. ولشركات التكنولوجيا أيضاً سجل في سياسات مثيرة للجدل بخصوص البيانات وتعديل المحتوى والرقابة. ولديها دوافعها الخاصة – ومن بينها نموذج العمل المستند إلى توليد حاويات مختلفة للبيانات وإلى تقادم الأجهزة والبرمجيات – وتوجد في نظام بيئي سياسي وتنظيمي معقد.

ويوفر النظام البيئي هذا عادة حوافز غير مفيدة لتعظيم الربح من خلال تخزين بعض البيانات بصورة انتقائية وتقليل الأعباء التنظيمية بإزالة الوصول إلى بيانات أخرى. وقد تكون الجماعات المهمشة مستهدفة بشكل خاص. فأثناء احتجاجات حركة حياة السود في 2020، اتهم بعض النشطاء مواقع تواصل اجتماعي مثل فيسبوك بفرض رقابة على منشوراتهم.

وفي مناطق الصراع، فإن الأنظمة ونظم تعديل المحتوى كثيراً ما تحذف مواد قد تكون أدلة حاسمة في التحقيقات في جرائم الحرب. العديد من الأشكال الثقافية يعتمد الآن بشكل كامل تقريباً على الصيغ الرقمية. وبينما كانت الأفلام والموسيقى متاحة من قبل للشراء في صورة مادية، فإن الكثير منها غير متاح الآن إلا في صورة رقمية. حتى الكتب فإنها تصدر أحياناً لقراء الكتب الإلكترونية فقط. ذلك يمنح الشركات التي تهدف للربح قوة هائلة، بما في ذلك خدمات البث ومنصات الموسيقى، للتحكم في نشر الفنون. بالطبع، ليس كل شيء يستحق الحفاظ عليه.

فأمناء الأرشيف والمكتبات يتعلمون كيفية تقييم الملفات لتحديد ما سيتم الاحتفاظ به وما سيجري حذفه. وتشجع بعض المنظمات غير الحكومية والحكومات – لاسيما الاتحاد الأوروبي – سياسات لتدمير البيانات تقوم على «الحق في المحو».

ويمتد تاريخ ضياع البيانات لآلاف السنين. وأوجد تخزين البيانات الرقمية تحديات جديدة جوهرية وأزمات حفظ. وتولد الطبيعة غير المركزية للإنترنت تلف الرابط وانحراف المحتوى، كما أن  الطبيعة الديناميكية وغير المستقرة بالضرورة للبيانات الرقمية – نظراً للهجرة المستمرة للبيانات – تعد مصدراً آخر للخطر. والكوارث الطبيعية والحرائق تهدد السجلات الرقمية مثلما تهدد السجلات المادية.

وتتطلب هذه التحديات حلولاً جديدة ومبتكرة. يتعين على الحكومات التوقف عن الاعتماد على منصات تواصل خاصة في عمليات الإدارة العامة اليومية، ويجب أن تعطي أولوية أكبر للأرشفة العامة. ويتعين علينا الحفاظ على ذاكرتنا الثقافية الجماعية. ويمكن لمؤسسات مثل المتاحف والمكتبات أن يكون لها دور أكثر إيجابية، ويتعين على المجتمعات الرقمية أن تضمن عدم محو البيانات الحساسة، سواء بطريقة مقصودة أو عرضية. لكن يتعين علينا أن نعترف أيضاً بأن السماح بفقدان بعض البيانات يمكن أن يكون أخلاقياً مثل الاحتفاظ بها.

نانا بونج ثيلستروب*

*أستاذة في جامعة كوبنهاجن ومؤلفة كتاب «سياسة الرقمنة الجماهيرية» وهي باحثة بارزة في مشروع يهتم بضياع البيانات يموله مجلس الأبحاث الأوروبي.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج آند سينديكيشن»