تشهد الإمارات منذ تولي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئاسة الدولة حراكاً سياسياً ودبلوماسياً متزايداً، واشتباكاً إيجابياً مع مختلف الملفات الحيوية للمنطقة والعالم، فالمتابع للشؤون الدولية يلاحظ كثافة وفاعلية التحرك الإماراتي، إذ أصبح من الواضح تماماً أن الإمارات تشهد مرحلة جديدة من تعزيز الشراكات والعلاقات الدولية الهادفة في مجملها إلى تحقيق مصالح الدولة العليا وترسيخ مكانتها وسمعتها بلداً موثوقاً وشريكاً استراتيجياً يُعتد به.

 

ومن المعلوم أن الإمارات ومنذ نشأتها اتخذت التطوير والتحديث نهجاً وأسلوب حكم، ولم يُعرف عنها الجنوح إلى التغيير الجذري في ما يتعلق بمبادئها الأساسية وتوجهاتها العامة، فلدولة الإمارات إرث حضاري وسياسي وقواعد صلبة بدأت منذ مرحلة التأسيس التي قادها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، ومن ثم مرحلة التمكين بقيادة المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان «رحمه الله»، فما يميز الإمارات رسوخ ومتانة مؤسسات الدولة وعراقة التقاليد التي تضمن الانتقال السلس والمنظم للحكم، فالمؤسسات الوطنية الراسخة والحكم الرشيد كانت وما زالت الضامن الأبرز لاستقرار وازدهار البلاد، وهذا ما ينعكس على الخطوات الواثقة لسياسة الإمارات الخارجية وعلاقاتها الإقليمية والدولية، التي ترتكز في أساسها على مبدأ الشفافية والثقة وتعزيز المصالح المشتركة لشعوب المنطقة.

 

ولعل الحضور غير المسبوق لملوك ورؤساء وممثلي الدول الشقيقة والصديقة لتقديم واجب العزاء بوفاة المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان «رحمه الله»، كان شاهداً حياً على الرصيد الكبير الذي تمتلكه دولة الإمارات على الساحتين الإقليمية والدولية، فقد تحولت أبوظبي إلى محطة دولية ضمت الجميع دون استثناء، بحيث رأينا وفوداً ذات توجهات مختلفة ومتعارضة أحياناً يجلسون معاً، نتيجة سبب وحيد وهو اتفاقهم على أهمية العلاقة التي تربطهم مع الإمارات، الأمر الذي رسم ملامح المرحلة باعتبارها مرحلة تعزيز مكانة الإمارات دولة صديقة ومحورية في المنطقة والعالم، ولاعباً مهماً على الساحتين الإقليمية والدولية.

هذا المشهد يقودنا إلى أهمية الاستمرارية التي تنتهجها دولة الإمارات، فصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد يستند إلى إرث ممتد من العلاقات الدولية الراسخة التي أسستها دولة الإمارات على مدى العقود الخمس الماضية.

ولعل العنوان الأبرز للسياسة الخارجية الإماراتية في السنة الأولى من حكم سموه هو مد يد الصداقة والتعاون للجميع في سبيل ازدهار الدولة واستقرار المنطقة، والمساهمة الفاعلة في نشر قيم السلم والحوار وتعزيز السلام الإقليمي والدولي. ومن هنا تميز العام الأول بالتركيز الواضح على مواصلة تبني ثنائية الاستقرار والازدهار، وهي ثنائية مرتبطة بموضوع الاستمرارية، فمنذ مرحلة تأسيس الإمارات كانت هذه الثنائية هدفاً رئيسياً للدولة، باعتبارها السبيل والطريق الأفضل لمواصلة النهضة والتنمية، وركيزة صلبة للسياسة الخارجية الإماراتية تعكس توجهاتها المرتبطة بمختلف القضايا الإقليمية والدولية، وهذا ما عمل سموه على تعزيزه وتأكيده، فهذا التوجه الراسخ في سياستنا الوطنية أثبت صوابه ونجاعته وقدرته على مواجهة التحديات والمستجدات.

ورغم مرور عام واحد فقط على تولي صاحب السمو لرئاسة الدولة، إلا أنه من غير الممكن لأي متابع للشأن العام إلا أن يرصد القفزات الكبيرة التي شهدتها السياسة الخارجية لدولة الإمارات، وتطور علاقتها شرقاً وغرباً، فقد كان العام حافلاً بتحركات سموه الديناميكية وكثافة لقاءاته وزياراته ومبادراته المرتبطة بالملفات العربية والدولية، فقد عززت الدولة توجهها نحو تصفير المشاكل وبناء الجسور وترميمها وتخفيف تصعيد التوترات في العديد من القضايا خاصة الإقليمية منها، كما برز بشكل واضح اهتمام سموه بقضايا الاقتصاد والاستثمار والتكنولوجيا والبيئة.

كما لعبت الإمارات ومنذ تسلم سموه مقاليد الحكم دوراً مساهماً ومشاركاً بفعالية في العديد من الملفات الشائكة ومنها الملفان اليمني والسوداني، وذلك بالتعاون والتنسيق مع الأشقاء والأصدقاء، وذلك لتحقيق هدف رئيسي لطالما آمنت به وعملت على تعزيزه، وهو إنهاء الخلافات والصراعات والاستثمار في الاستقرار وترسيخه، وبما يعزز العمل العربي المشترك وأدواته، إذ لدى صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إيمان راسخ بأهمية البُعد العربي للتعامل مع تحديات المنطقة وإيجاد الحلول لها، بما يحقق مصالح شعوبها ويضمن ازدهارها. وبموازاة ذلك واصلت الإمارات جهودها في مجال المساعدات الإنسانية ومد يد العون للشعوب الأخرى دون تفريق أو تمييز؛ كون هذا الأمر يعُد جزءاً أصيلاً من سياستها الخارجية، وفي هذا الصدد يبرز دور سموه الكبير في دعم المبادرات الدولية في مجال القضاء على الأوبئة والأمراض وتعامله الإنساني في مساعدة ومساندة العديد من دول العالم خلال تفشي جائحة كوفيد 19، فالإنسان ورعايته بغض النظر عن انتمائه ومكانه كان ولا يزال محور اهتمامه ورعايته الدائمة.

ومع رؤية واضحة للمستقبل وإيمان عميق بأن حل أي مشكلة أو أزمة يأتي من خلال القدرة على اتخاذ القرارات الجريئة والحاسمة، وتحمل تكلفة المبادرة، تبنت الإمارات منذ تولي سموه رئاسة الدولة دوراً استباقياً في عدد من الملفات المهمة والشائكة، ومنها الملف السوري، حيث بادرت بالتواصل مع دمشق للدفع نحو تعزيز الدور العربي في سوريا وإعادتها إلى محيطها الطبيعي، وهذا ما ينسجم مع تفكير وقناعات صاحب السمو رئيس الدولة، الذي يؤمن بأن التعامل الصحيح مع أي أزمة يكمن في القدرة على القيام بما يجب القيام به والمبادرة في تطبيقه دون انتظار ما سيقوم به الآخرون، كما يستند إلى إدراك سموه العميق بأن الدول العربية عليها مسؤولية للتصدي لقضايا الأمن القومي، ففي نهاية المطاف تنعكس هذه القضايا على المنطقة وشعوبها.

ولدى صاحب السمو رئيس الدولة مقاربة منهجية يمارسها دائماً في علاقات الإمارات الدولية، وهي بناء علاقات ثقة وروابط شخصية مع مختلف قادة العالم، لإيمانه أن هذا المسار يعزز من العلاقات الثنائية، ويسهم في إيجاد قاعدة صلبة للانطلاق منها نحو حلحلة الخلافات والمشاكل وتقريب وجهات النظر، وهذا ما يتكامل مع قناعته بأهمية أن يكون للإمارات علاقات مع الجميع دون استثناء، بغض النظر عن طبيعة الخلافات المزمنة المرتبطة ببعض الدول، وبالتالي كان تركيز سموه وتأكيده الدائم على بناء جسور التواصل المباشر للالتفاف على المشاكل عبر تعظيم المشتركات وعدم الوقوف عند الاختلافات، وبما يتفق مع سيادة الدولة واستقلال قرارها الوطني، إذ يبقى هذا الأمر في صدارة أولويات سموه وقضية لا تقبل تهاوناً أو مساساً بها.

ولأن الاقتصاد هو عصب العلاقات الدولية وبوصلة التوجهات العالمية، ركزت السياسة الخارجية الإماراتية خلال السنة الأولى من عهد سموه على المنظور الجيواقتصادي في علاقاتها الخارجية، والذي يتمثل في تطوير علاقات استثمارية ومالية واقتصادية، ومن خلالها يتم بناء أسس أفضل للعلاقات السياسية، فالتجارب تؤكد أن الدول المتشابكة اقتصادياً لديها قدرة أكبر على الحوار والتفاهم وتعزيز المشتركات وتخطي الأزمات والخلافات، ونتيجة لهذا المنظور المثمر والعملي فقد شهد العام الماضي نمواً كبيراً للناتج المحلي الإجمالي ونشاطاً واضحاً للدبلوماسية الإماراتية في مجال اتفاقيات التجارة الحرة والشراكات الاقتصادية الشاملة وتعزيز الموقع التجاري والاقتصادي للدولة.

ولطالما تميزت لقاءات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بالبحث عن المشترك والجوانب التي يمكن البناء عليها، ولقد انعكست هذه القناعات التي يتبناها سموه بشكل إيجابي على الشأن الداخلي، فما نشهده من ازدهار ونمو بعد جائحة كوفيد 19 يؤكد أن هذا النهج ساهم بشكل كبير في تخطي تداعيات وتأثيرات الجائحة، بعكس العديد من الدول.

وانطلاقاً من رؤية سموه التي تتبنى الانفتاح والتعامل مع مختلف دول العالم، تميز الحراك الدبلوماسي النشط لصاحب السمو رئيس الدولة خلال العام الأول من عهده بتنويع الخيارات، لذلك رأينا مقاربة متوازنة تقوم على جزئين رئيسيين، هما تعزيز العلاقات التقليدية مع الدول الغربية والانفتاح الإيجابي على الشرق، ففي الجزء الأول تعمل الدولة على توطيد علاقاتها مع الغرب، نظراً لما لهذه العلاقات من ارتباط بأمن الإقليم واستقراره، وهي علاقات مهمة في إطار التوجه الإماراتي نحو تعزيز المظلة الدفاعية والأمنية وبناء قدرات وطنية تتمتع بالكفاءة والفاعلية اللازمة لحماية المنجزات الوطنية المتحققة.

أما الجزء الثاني من مقاربة السياسة الخارجية فهو تنمية العلاقات مع الشرق، وذلك لكون الدول الآسيوية أصبحت الأكثر بروزاً على الساحة الاقتصادية العالمية، وباتت من الأقطاب الرئيسية، خاصة في ما يتعلق بالاقتصاد المرتبط بالتكنولوجيا الجديدة والمتقدمة، ولكون اقتصاد الإمارات اقتصاداً ديناميكياً يتمتع بنسب نمو عالية، فهو بحاجة إلى التعاون والتكامل مع الاقتصادات المتنامية لتعزيز الاستفادة من فرص النمو ونقل التكنولوجيا الحديثة إلى الإمارات للارتقاء بقدرات الاقتصاد الوطني، لمواكبة التطورات العالمية التي باتت تعتمد بشكل كبير على تقنيات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة.

وإذا  نظرنا إلى سياستنا الخارجية خلال العام الأول من عهد الشيخ محمد بن زايد، نرى بكل وضوح حجم ونوعية الخطوات المهمة التي قامت بها الإمارات في العديد من الملفات الإقليمية والدولية، والترحيب العالمي بها، نظراً للمصداقية التي تتميز بها، فقد كان لقيادة سموه المؤثرة ورؤيته الواضحة الدور الكبير في ترسيخ مكانة وسمعة الدولة، وهذا ما يؤكده الحراك الدبلوماسي النشط لزعماء العالم الذين يزورون الدولة، فالعديد منهم معني بسماع وجهة نظر الإمارات نتيجة للقناعة الراسخة بأن صاحب السمو رئيس الدولة ينتهج سياسة واضحة المعالم قائمة على المصداقية والشفافية، فما يميز صاحب السمو الوضوح والحزم والموقف الصلب، فالمواقف التي يتبناها في الاجتماعات المغلقة هي ذات المعلنة، وهذا ما يؤكد عليه سموه لفريقه بشكل متواصل بأن الإمارات يجب أن تبقى بعيدة عن الازدواجية بين القول والفعل، ناهيك عن خبرته وحكمته ورأيه السديد في العديد من المواضيع المعقدة والمتشعبة في المنطقة والعالم.

وقد لعبت الدبلوماسية الإماراتية دوراً كبيراً في تنفيذ رؤية سموه، ففي مرحلة شديدة الاحتقان في النظام الدولي استطاعت الإمارات ومن خلال موقعها في مجلس الأمن الدولي أن تكون أحد جسور التوافق وعلى أعلى المستويات، كما وظفت قدراتها الإغاثية والإنسانية حيثما أمكن لتعزيز فرص الحوار والدبلوماسية لتسوية الخلافات والنزاعات الدولية، إلى جانب دورها الريادي في الملفات المتعلقة بالتحديات التي تواجه العالم ومن أبرزها التحديات المرتبطة بالمناخ، ولعل استضافة الدولة لأحد أهم أحداث المعمورة «مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغيّر المناخ» (كوب 28) ما هو إلا انعكاس لموقع الإمارات والثقة العالمية في قدرتها على لعب دور مهم في هذه الملفات الحيوية للإنسانية جمعاء.

لقد كان العام الأول من عهد سموه عاماً يبعث على التفاؤل ويبشر بتسارع نهضتنا الوطنية، ويعزز من مسيرتنا ويرسخ مكانة الإمارات وموقعها بين دول العالم، فسموه قائد استثنائي دائماً ما تكون خطواته متقدمة، فهو يدرك بأن العالم لا ينتظر أحداً، وريادة الدول وتفوقها تستلزم أن تبقى في مقدمة الركب وتسير بخطى واثقة ومتجددة، فعلى مدى الأشهر الاثني عشر الماضية، انطلقت الإمارات في مرحلة جديدة من مراحل تطورها نحو آفاق واسعة من الإنجازات والتنمية، وإرساء علاقات دولية قوية، فالإمارات اليوم تمثل نموذجاً للدولة الوطنية القادرة على المضي قدماً نحو تحقيق أهدافها والتفوق على الكثير من التوقعات، ورغم انشغالها الدائم بمسيرتها وتطورها، إلا أنها لم تتوان عن مواصلة دورها الفاعل في مسار تعزيز السلم والأمن، ونشر قيم التعايش والسلام والدفع باتجاه إعلاء قيمة الاستقرار والازدهار بدلاً من الصراعات والخلافات التي لن تقدم للبشرية إلا التراجع والمآسي الإنسانية.

الدلالات عديدة والشواهد التي تتحدث عن الحراك السياسي والدبلوماسي الإماراتي حاضرة بقوة، فهو حراك إيجابي يشتبك مع القضايا والملفات بانفتاح وعقلانية وواقعية بعيدة عن الانغلاق والتموضع السلبي والجمود السياسي، وهو في الأساس حراك مدفوع برؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد السديدة وفهمه العميق لمقتضيات التنمية الشاملة ومتطلبات السياسة الدولية في نظام عالمي متحول، الأمر الذي توثقت معه علاقات الإمارات بالعالم، وكلنا تفاؤل بأن الأعوام المقبلة تحمل في طياتها تعزيزاً لموقع الإمارات على الساحتين الإقليمية والدولية، وآفاقاً جديدة من التنمية الشاملة ترسخ مكانة الدولة وسمعتها على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والإنسانية والعلمية.

معالي الدكتور/ أنور محمد قرقاش*

*المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة.