كُتب التاريخ الإسلاميّ بمنطقين، تجاه الخلافة والثَّورات عليها، فمَن اعتبر عليّ بن محمد صاحب الزِّنج(قُتل: 270هج) خبيثاً(الطَّبريّ، تاريخ الأُمم والملوك)، ومَن عدَّه مُحرراً مِن العبوديَّة(السَّامر، ثورة الزُّنج)، ومَن اعتبر بابك الخُرميّ(قُتل: 223هج) «أَخَذَ فِي الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ»(ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ)، ومَن اعتبره ثائراً على الاقطاعيَّة(العزيز، البابكيّة)، والكتابان «الزِّنج» و«البابكيَّة» صُنفا في ظل تقاليد ثورة أيضاً، الثَّورة الرُّوسيّة. أما «تاريخ الأمم...» و«الكامل...» فصنفا في عهد الخلافة التي لم يمر عام عليها من دون ثورةٍ!
حسب فيصل السَّامر(ت: 1982)، وحسين قاسم العزيز(ت: 1995)، أنَّ أيّ تمرد ضد سلطة ما أنه الحقّ. أما الطَّبري(ت: 310هج) وابن الأثير(ت: 630هج) فيؤمنان بالمقابلة بين مفسدة السُّلطة ومفسدة الثَّورة، أيهما أهون، فوجدا الأول أهون، أما السَّامر والعزيز فلا يقابلان بين المفسدتين! ولم يفكرا أنَّ لا صاحب الزّنج ولا بابك سيشيدان العدالة الاجتماعيَّة.
هذا، والسَّامر والعزيز، وهما يعيدان كتابة التَّاريخ، يؤمنان تحقيب التَّاريخ على أساس خمس حِقب متتالية (مشاعيَّة، عبوديَّة، إقطاعيَّة، رأسماليَّة، شيوعيَّة)، فمِن غير الوارد، وفقاً لعقيدتهما، الماركسيَّة، أن يتجاوز صاحب الزِّنج العبودية، و«بابك» الإقطاعيَّة، لأنهما مرحلتان حتميتان، يكون إسقاطهما خارج حتمية التاريخ، لهذا يكون مِن الجهل أنّ يُطلب مِن صدر الإسلام إلغاء الرِّق أنذاك. غير أنّ الطَّبريّ وابن الأثير، إذ نعتا الثَّائرين بأرذل النُّعوت، لم يغفلا مساوئ الخلفاء.
ذكرني بهذه المقدمة إيريك دورتشميد، وكتابه «همس الدَّم.. قصص الثورات والفوضى والخيانة والمجد والموت»(دار المدى 2020). تحدث عن ثورات كبرى، منها: الفرنسية(1782) والبلشفيّة(1917). كان الجدل جارياً بين الثوار عن قتل أو بقاء الملك، فمَن قال انتصرنا ولنوجهه بما نريد، وقتله سيصبغ مجدنا بالدَّم!
هل كان الثوار، بعد انتصار الثَّورة البلشفيَّة، ونفي الأسرة المالكة إلى سيبيريا، بحاجة إلى قتل طفل أمام أمّه، لأنه نطفة الملك؟ أو إبادة العائلة الملكيّة بالعراق(1958)؟ هل كان الثوار المنتصرون، وهم يحملون الدِّين والعدل شعاراً، بحاجة إلى الإعدامات المريعة؟ ينقل المؤلف ما قرره أحد قادة الثَّورات أن الرُّعب(الثَّوريّ) فضيلة.
ظهر في إحدى الثَّورات المنطق الآتي: «الدّفاع عن الوطن في الدَّولة البروليتاريَّة هو واجب ثوريّ، لكنه في الدَّولة البرجوازيَّة خيانة»(همس الدَّم). كان مِن المحرضات مِن أجل الثَّورة الإساءة للفقهاء، لكن عندما استحكمت حلقاتها، أخذت تُحاكم الفقهاء بالخيانة!
عرفنا الثَّورات المسلحة دَمويَّة، لكنّ ماذا عن الثَّورات المسالمة، كشباب «تشرين» ببغداد، لم يحملوا حتى خيزرانة، وكذلك ثورة النِّظام على نفسه، لتصحيح مساره. غير أنَّ هذا التّصحيح يُؤخذ مِن قِبل خصومها انتكاسةً، فمجلس الإعمار العراقي(1951)، الذي جعل واردات النِّفط كافة لتشييد البُنية التّحتيّة، سماه خصومها بمجلس الاستعمار. كذلك مثال «الثَّورة البيضاء» في عهد الملكيَّة، اشراك العمال في المصانع، وتأميم المراعي والغابات، ومشاركة النّساء في السِّياسة، لكنَّ الثّوار قدموها «خطورة في طريق التَّرويج للفساد والفحشاء»(رفسنجانيّ، حياتي).
قال محمَّد محمود الزُّبيريّ(اغتيل: 1965) لثورة (26 سبتمبر) بصنعاء: «يومٌ مِن الدَّهرِلم تصنع أشعته/شمس الضُّحى بل صنعناه بأيدينا»، والشَّاعر نفسه قال لثورة العراق(1958): «صيحة الشَّعبِ في بلد الرَّشيد/أشعليها ناراً وثوري وزيدي/ فاحذري يا بغداد إنَّ أفاعينا/ أشرُ مِن ألف نوري السَّعيد»(الدّيوان). لكنّ ما لم تصنعه الشَّمس للزُّبيريّ، أخذ يردده الثُّوار والثّوار المضادون أيضاً، وأجلس عصابةً تلو عصابة على قلب صنعاء، وأنَّ أحفاد جيل نوري السَّعيد، ممَن شهدوا سحل ما تبقى مِن جسده، صاروا يتغزلون بعراقيته.

إنَّ أول ما يلفت نظرك في «همس الدَّم...»، أنَّ الثَّورات، من اليوم الأول، ينمو فيها عِرق خرابها، وسرعان ما تختفي شعاراتها، الدُّم صار فيها شلالاتٌ لا همسٌ.
*كاتب عراقي