النّقدُ لغة تمييز الجيد من الرديء، ولم يبتعد معناه الاصطلاحي عن هذه الروح اللغوية، فكان النقد دوماً وقوفاً عقلياً عند الظواهر وسؤالها، نشداناً للنفاذ إلى ماهيتها وتحرّزاً من الوقوع في شرَك ظواهرها. وقد ارتبط النّقد بالفلسفة، حتى إنه لا تفكير نقدياً إلا التّفكير الفلسفي، ولعل أول من كرّس هذه الخاصية للفلسفة هو «أمبادوقليس» صاحب القصيدة الشهيرة في تمييزه بين الحقيقة والظن، فمع هذا الفيلسوف بدت طلائع التفكير النقدي التي ستتقوّى مع سقراط، وتترسّم على شكل أورغانون مع أرسطو. ولعل سمات النقد في المنهج التوليدي لسقراط كانت من أبرز سمات التفكير الفلسفي القديم، فقد كان سقراط حريصاً على بيان الثغرات العلمية في أجوبة محاوريه حتى يعمدوا إلى تصحيح أقوالهم تحت ضرباته النقدية النفّاذة المحمّلة بلهيب السخرية وادّعاء الجهل. لكن أرسطو علّم البشرية النّقد صناعياً من خلال كتبه الستّة أو الثّمانية، والتي جعلها تدور حول البرهان. 
لم يكن الفلاسفة المسلمون بمنأى عن ممارسة النقد، ولم يكونوا يتحرّجون من نقد أي رأي يرونه لا يستجيب للمعايير التي يوزنون بها الرّأي الصحيح، نجد ذلك مبثوثاً في ثنايا كتبهم، ونجده ظاهراً في عناوين بعض كتبهم، مثل كتاب «الشّكُوكُ على بطليموس» لابن الهيثم، و«الشّكوك على جالينوس» للرازي، ولعل أهم ميزة تدمغ شخصية الفيلسوف هي كونه ناقداً لا يقبل الآراء إلا إذا خضعت لمقاييس علمية محددة، بل إنه ليمكن القول إن الفيلسوف يولد وهو يتمتع بقدرات قوية على ممارسة النقد، ولعل إشارة الغزالي في مستهل كتابه «المنقذ من الضلال» تؤيد ذلك، إذ يقول: «وقد كان التّعطش إلى درك الحقائق دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله لي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد سنّ الصبا[...]»، والشاهد عندنا قوله: «غريزة وفطرة من الله فكأنها جبلّة». وقد كان الغزالي من أنصار المذهب الشّكّي المنهجي الذي يرى أن «الشكوك موصلة إلى اليقين»، كما عبّر عن ذلك في كتابه «ميزان العمل». ولا شك أنه قد كان لاحتكاك فقهائنا المسلمين بالفلسفة دور كبير في بلورة تفكير نقدي أصولي فقهي كان من أهم معالمه جعل الواقع شريكاً في إنشاء الأحكام الشرعية، فلم تعد للنصوص كفاية ذاتية في تنزيل الحكم الشرعي على واقع معقد، بل أصبحت هناك وسائط نقدية تعمل على ذلك. 
لكن الفيلسوف الذي ارتبط النقد باسمه لم يكن غير الفيلسوف الألماني «كانط» صاحب الثلاثة الشهيرة «نقد العقل النظري»، و«نقد العقل العملي»، و«نقد ملكة الحكم»، وقد تجلى النّقد عند كانط كونه وضعاً لحدود للمعرفة، بمعنى ما الذي يمكن أن نعرفه وما الذي لا يمكن أن نعرفه؟ مقرراً أن الموضوعات التي تستجيب للحساسية والفهم هي وحدها التي تكون موضوعاً للمعرفة، مؤسساً ثورة كوبرنيكية جديدة في نظرية المعرفة. 
ليس النقد سمة للفكر الفلسفي، بل هو ملاكه ولحمته، ذلك أن التفكير الفلسفي في عمقه هو تفكير إشكالي تسكنه المفارقات، يبلور الأسئلة، ويجابه الإحراجات بأدوات منطقية محكمة، ويجتهد على مستوى المفاهيم لتقديم نسق نظري يسهم في فهم الواقعين النظري والعملي معاً.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية