مضت أزيد من سبعة عقود على توقيع معاهدة «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) كأكبر حلف عسكري في تاريخ البشرية. وقبل نشوب الحرب الحالية في أوكرانيا سبق وأن خرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتصريح عن «الموت السريري» للحلف، في مقابلة كان قد نشرتها له مجلة «ذي إيكونومست»، وهو ما أثار في وقته ردود فعل مباشرة وقوية حتى من أكبر حلفائه، وأعني بذلك ألمانيا، إذ انتقدت المستشارة الألمانية آنذاك أنغيلا ميركل هذا الحكم «الراديكالي»، وقالت: «لا أعتقد أن هذا الحكم ضروري، بل هو غير مناسب، حتى ولو كانت لدينا مشاكل، حتى ولو كان علينا أن نتعافى». 
التصريح غير المسبوق الذي كان قد أدلى به الرئيس الفرنسي آنذاك لم يعد أحد يذكره ولا يريد حتى أن يفكر فيه مع حرب أوكرانيا والخوف الذي ينتاب الأوروبيين من تداعياتها عليهم في مجالات الأمن والطاقة والغذاء.. فالكل يريد أن يَظهر في صورة أن دول الحلف متحدة، وأنهم في ظل الأزمة الأوكرانية متفقون على كل شيء. ويمكن اعتبار التصريحات الفرنسية المذكورة غير استراتيجية، وربما أيضاً غير حكيمة، وهو ما أظهرته تبعات الحرب في أوكرانيا وأبرزها انضمام فنلندا مؤخراً إلى الحلف لتصبح الدولةَ الاسكندنافية التي تتشارك مع روسيا حدوداً بطول 1300 كيلومتر، والتي أصبحت الآن العضو الحادي والثلاثين في حلف شمال الأطلسي. ونعلم أن انضمام فنلندا إلى الحلف بمثابة نقطة تحول تاريخية لهذا البلد الذي تبنّى لعدة عقود سياسةَ عدم الانحياز العسكري لأي طرف.
وقد خضعت فنلندا للسيطرة من قبل جارتها لمدة قرن حتى اندلاع الثورة الروسية عام 1917، ومنذ ذلك الوقت تواجهت روسيا مع البلد الشمالي مرتين (1939-1940 و1941-1944)، وبالطبع فقد خسرت فنلندا في كلتا المرتين. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تبنت هلسنكي موقفَ الحياد، والذي تطور لاحقاً إلى مبدأ عدم الانحياز عسكرياً إثر انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. لكن مع الحرب في أوكرانيا، تطورت الاستراتيجيات الحربية وبدأ يُنظر إلى الحلف كمصدر أمن شبه موثوق فيه. 
وبانضمام فنلندا إلى «الناتو» سيزيد الطول الإجمالي للحدود بين روسيا والحلف بمقدار الضعف تقريباً، وستستفيد هلسنكي من الحماية التي يوفرها البند الخامس من ميثاق «الناتو»، والذي ينص على أنه إذا تعرضت دولةٌ عضو لهجوم مسلح، فإن الدول الأخرى ستعتبر هذا العمل هجوماً مسلحاً موجهاً ضد كل الأعضاء الآخرين، وستتخذ الإجراءات الضرورية لتقديم المساعدة للبلد العضو المستهدف.
وتَعتبر موسكو هذا الانضمامَ تهديداً مباشراً لمصالحها وسيادتها وتصعيداً جديداً للوضع المتأزم بالفعل جراء الحرب مع أوكرانيا، وهو ما يعتبر مصدر قلق بالنسبة للفنلديين، لكن في المقابل يَنظر حلف شمال الأطلسي إلى انضمام فنلندا، وكذلك إلى الانضمام المرتقب للدولة الإسكندنافية الأخرى (وأعني بها السويد)، على أنه إضافة مهمة تعزز أمن ضفته الشمالية الشرقية. 

*أكاديمي مغربي