أصبح معتاداً أن يشيد مسؤولون أميركيون وأوروبيون كبار بوحدة حلف شمال الأطلسي «الناتو»، وكيف أنه أصبح أقوى وأكثر تماسكاً من أي وقت مضى. وتوجد فعلاً دلائل على أن الحلف حافظَ على درجةٍ يُعتد بها من الوحدة على مدى أكثر من عام في ظروف صعبة، لكن ليس إلى المستوى الذي يتحدث عنه مَن يشيدون بأدائه. وعلى سبيل المثال، لم تمض أيامٌ على آخر حديثٍ للرئيس الأميركي بايدن عن وحدة «الناتو» التي لا نظيرَ لها فيما مضى، حتى أرجأت المجرُ تصديقَها على انضمام السويد وفنلندا إليه، لتصبح ثاني الدول الأعضاء التي تتخذ هذا الموقفَ.
وإذا تغاضينا عن مثل هذه المواقف التي يمكن أن تتغير، وعن النزاع الذي لا يبدو قابلاً للحل بين اليونان وتركيا، يصعب أن نستهين بشقوقٍ مرشَّحة للتوسع بسبب تباين اتجاهات دول الحلف تجاه حرب أوكرانيا، وهي القضية التي يُشاد بوحدته تجاهها.
ويمكن تصنيف هذه الاتجاهات في أربعة: أولها الاتجاه المتشدد الذي تقوده الولاياتُ المتحدة، وتشاركها فيه عدةُ دول أوروبية تدعم تلبيةَ معظم، وليس كل، مطالب أوكرانيا من الأسلحة، وفرض عقوبات أكثر على روسيا.
ويقابل ذلك الاتجاه في الطرف الآخر موقفٌ يمكن اعتباره معتدلاً تتبنَّاه كل من المجر وتركيا تجاه روسيا. فقد حافظت المجر على علاقات ثنائية إيجابية مع موسكو، انطلاقاً من رؤيتها لمصلحتها القومية. وتبنَّت تركيا موقفاً أقرب إلى الحياد، فواصلت الاتصالات مع روسيا على أعلى مستوى، ولم تلتزم بقرارات الحلف المتعلقة بفرض عقوبات عليها.
وفي المساحة بين الاتجاهين، المتشدد والمعتدل، نجدُ اتجاهين آخرين أحدهما أكثر والثاني أقل تشدداً. تبدو مواقف كل من ألمانيا وفرنسا أقل تشدداً من ذلك الذي تقوده الولايات المتحدة، حيث أبقى كلٌ من ماكرون وشولتز جسراً مفتوحاً مع موسكو عبر الاتصالات الهاتفية. كما أن مقاربتهما لمسألتي تزويد أوكرانيا بالأسلحة وفرض عقوبات على روسيا، أقل اندفاعاً وأكثر تفكُراً من الاتجاه المتشدد.
أما الاتجاه الرابع، وهو الأكثر تشدداً على الإطلاق، فهو ما يمثل الشق الأكبر في جدار الحلف، وإن كان ضعف نفوذ الدول التي تتبناه يحجب تجلياتِه عن أنظار كثير من المراقبين حتى الآن. والمفارقةُ أن الدولَ التي تتبنى هذا الاتجاه كانت كلها أعضاءٌ في حلف «وارسو» الذي قاده الاتحاد السوفييتي السابق بين عامي 1955 و1991، أو كانت جزءاً منه قبل تفككه. وبين هذه الدول بولندا التي أُسس الحلف في عاصمتها «وارسو» وحمل اسمَها، إلى جانب رومانيا وتشيكيا وسلوفاكيا التي شاركت في تأسيسه، ولاتفيا واستونيا وليتوانيا التي كانت جمهورياتٍ سوفييتية قبل أن تنال استقلالَها في عام 1991. ونظراً لتناغم مواقف هذه الدول السبع، الأكثر تشدداً ضد روسيا، فهي تبدو وكأن تحالفاً خاصاً يجمعها في إطاره. وهذا وضعُ غير طبيعي في حلفٍ يُشادُ بوحدته كما لم يحدث من قبل.
ولما كانت هذه الشقوق قابلةً للتوسع يصبح الحديث عن وحدةٍ كاملة أقرب إلى التمني منه إلى الواقع.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية