تناولتْ المقالةُ السابقة ظواهرَ يبدو منها بوضوح أن نظماً ديمقراطية عديدة تواجه أزمات حقيقية، بعضها يمكن ربطه بتجذر الثقافة الديمقراطية بحيث يحدث الاحتجاج على نتائج العملية الانتخابية عندما لا تأتي على هوى فريق معين، وإن كان من الغريب أن يحدث هذا في بلد ذي تقاليد ديمقراطية لازَمَته منذ نشأته، ومن هنا الحديث عن أزمة للديمقراطية، والبعض الآخر يحدث عندما تتصرف الأغلبية الحاكمة على نحو ترفضه قطاعات واسعة من الشعب قد تشكل أغلبية. وهنا تجب التفرقة بين الأغلبية التي تتشكل لحظة الانتخابات والأغلبية التي يمكن أن تتغير بعد هذه اللحظة ربما بسبب مرور الوقت وتغير موقف الرأي العام من حكومة الأغلبية البرلمانية بسبب أدائها، أو ربما بسبب ظهور قضية جديدة لم تكن مثارة حين أُجريت الانتخابات، وبالتالي فأغلبية الرأي العام قد تختلف مع الأغلبية البرلمانية في هذه القضية تحديداً.
وإذا كانت مواجهة النوع الأول من الأزمات (رفض القبول بنتائج الانتخابات) تبدو سهلة نسبياً بإعمال القانون وفرض الانضباط، كما حدث بعد اقتحام الكونجرس الأميركي عقب هزيمة ترامب، أو في البرازيل بعد اقتحام أنصار بولسونارو مقارَّ المؤسسات الحكومية بعد هزيمته، فإن مواجهة النوع الثاني الذي تتصرف فيه الأغلبية المعترف بشرعيتها على نحو يبدو مخالفًا لرأي أغلبية الرأي العام لا شك أصعب بكثير، خاصة عندما تتشبث الأغلبية الحاكمة بموقفها وكذلك الرأي العام، كما يبدو الآن في كل من فرنسا وإسرائيل بخصوص مد سن التقاعد في الأولى ومشروع الحكومة لإصلاح النظام القضائي في الثانية.
وتفيدنا الخبرةُ التاريخيةُ بحالات عصفت فيها الأغلبية المنتخبة ديمقراطياً بالديمقراطية ذاتها كما فعل الحزب النازي في ألمانيا بعد فوزه بانتخابات عام 1933، لكن آليات التصحيح في النظام الديمقراطي موجودة في حالة عدم العصف بأسس العملية الديمقراطية، كما هو الحال في الحق في سحب الثقة من الحكومة المعترض على تصرفاتها. غير أن هذه الآلية غير مضمونة النتائج إذا كانت الأغلبية الحاكمة متماسكة، وهو ما حدث في طرح الثقة مؤخراً بالحكومة الفرنسية. وهناك آلية ثانية أبطأ كثيراً، وهي آلية الانتخابات الدورية التي تتيح للرأي العام إما تأكيد الثقة في مَن فازوا بالأغلبية أو حرمانهم منها. وبالمثل تأكيد الثقة في النظم الرئاسية في الرئيس القائم أو حجبها عنه، كما حدث في الانتخابات البرازيلية الأخيرة. وفي بعض الأحيان تتم الدعوة لانتخابات مبكرة للاحتكام للرأي العام في الخلاف المحتدم بين الأغلبية الحاكمة والرأي العام، وإن لم ترحب كل حكومات الأغلبية بالضرورة بهذا الحل لتوقعها أنه سيطيح بها من السلطة، كما فعل الرئيس المصري المنتمي لـ«الإخوان» في عام 2013 عندما عُرِض عليه -خروجاً من المأزق السياسي- أن يُجْري انتخابات رئاسية مبكرة، فرفض لثقته بأنه سيُهزم فيها على ضوء ما ظهر من تحولات جذرية في الرأي العام المصري بعد الأداء بالغ السوء لـ«الإخوان» في الحكم.
ويرى البعض أن اللجوء إلى الاستفتاء حول القضايا الخلافية يمكن أن يمثل مخرجاً، وهو ما فعله ديجول بالاستفتاء على إصلاحاته الخاصة بتطبيق اللامركزية، واستقالته بعد أن جاءت النتائج على غير ما كان يريد، وهو درس بليغ لكل صاحب أغلبية يتمسك بموقفه بغض النظر عن اتجاهات الرأي العام.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة