تتمة لموضوع الديموقراطية الذي طرحته بمفهوم تبيئته بمقالتين سابقتين، الآن يمكن مقارنته بمفهوم العلمنة الذي يزايد عليه جموع المتطرفين عبر السوشيال ميديا ومنصات «البودكاست» باسم المعارضة أو الحقوق المزعومة. 
قبل أيام طرح بعض الموتورين بالخليج بالخارج فكرة الديموقراطية كبديل للعلمنة السياسية والمؤسسية باعتبار العلمنة من «الشر المحض». 
لقد بقي مفهوم العلمانية بكل التباسات تبيئته وترجمته إلى العربية مثار نقاشٍ طويل ليس على المستوى الآيديولوجي العقائدي المتعلق بضرورة ربط أي إجراء سياسي ب«الحكم الإسلامي»، وإنما حتى بين التيارات الفكرية العربية المعاصرة.
كان النقاش كبيراً بين عدد من المفكرين حول علاقات العلمانية بمفهوم الديمقراطية، سجال بلغ ذروته أواخر الثمانينات بين مفكريْن بارزين هما حسن حنفي ومحمد عابد الجابري على صفحات إحدى المجلات « امتد لعشرة أسابيع متواصلة في الفترات بين مارس ونوفمبر من عام 1989، وقد طبع في كتابٍ مستقل أطلق عليه:«حوار المشرق والمغرب». 
طرح الجابري الديمقراطية كبديلٍ للعلمانية، بكتابه «الدين والدولة وتطبيق الشريعة»، وتحت عنوان: «بدلاً من العلمانية، الديمقراطية والعقلانية» يكتب الجابري:«برأيي أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر القومي العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية».
في الجزء الأول من كتابه «هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية» يعمل جورج طرابيشي مجرحه الدقيق على طرح الجابري العشوائي حول مفهوم «العلمانية» يقول جورج: «الحال أن الجابري، عندما يعوزه المزيد من الأسلحة المنطقية لتدعيم مقولته عن عدم لزوم العلمانية، يستعين بمنطق الأصوليين، ولكنه لا يأخذ من استدلالهم سوى مقدمته الصغرى، أي تحديداً الضعيفة».
يعترض طرابيشي على مقدمة الانطلاق عند الجابري ويشير إلى أن العلمنة قد لا يكون فيها أذى للإسلام كدين، بقدر ما أنها تهيئ له جواً للانعتاق من الأسر أو بحسب «ماكس فيبر» نزع السحر عن العالم. 
فالعلمانية في نهاية المطاف لا تتطلع إلى تحرير المجتمع من الدين، بل إذ تكف يد الدولة عن المجال المجتمعي وعن المجال الديني معاً، تكفل أكبر قدر من الحرية الدينية للأفراد والجماعات معاً. ففي ظل العلمانية فحسب، يمكن أن تتفتح الحرية الدينية إلى أقصى مداها، وفي ظل العلمانية فحسب، يستعيد الدين مجال فاعليته في المجتمع. 
تأتي ممانعة الجابري ضد المفهوم باعتباره دخيلاً على المجتمع العربي، وهو من بين الآثار المسيحية التي لا يحتاج إليها الإسلام، يستخدم وغيره ذات المنطق التقليدي الحارس للهوية، وحين تقرأ كتاب الجابري آنف الذكر يعيدك إلى منطق عبد الوهاب المسيري في كتبه المناوئة للعلمانية وأساسها «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» وفيه ينطلق بعداوته للعلمانية من مفاهيم طرحت في مدرسة فرانكفورت مثل «الاستهلاكية – الشيئية – الأداتية»، و«التشيؤ» المتهمة به العلمانية الاستهلاكية كان قد طرحه من قبل جورج لوكاتش. 
يكتب المسيري مثلاً في كتابه «الهوية والحركة الإسلامية»: «لا بد أن أشير إلى أن عبارة (إصلاح الخطاب الديني) تستخدم أحياناً لتعني إعادة صياغته بطريقة ترضي الغرب، مما يعني تحويل الدين إلى تجربة ذاتية روحية فيفصل الدين عن السياسة وعن الحياة، وتصبح النزعة «الجهادية» والرغبة في إقامة العدل في الأرض نزعات ورغبات إرهابية، أي إن الإصلاح هنا يعني إلغاء ما أسميه بالإسلام المقاوم وسيادة رؤية لإسلام براغماتي عملي مسالم مساوم يعجب الأجانب، والذي أسميه ساخراً(الإسلام السياحي)». وهذه ذروة التبيئة الفلسفية للنظرية الإرهابية. الخلاصة أن العلمنة أهم من الديموقراطية وهذا ما أثبته التاريخ بكل عواصفه، وهذا ما دلت عليه زلازل التاريخ وعاتيات الرياح. وللحديث تتمة.

*كاتب سعودي