إذا جاز أن نتخذ للعام المنصرم 2022 عنواناً اقتصادياً، فلا ريب أن «عام التضخم» هو الأكثر ملاءمة لذلك. فلقد انتشرت وتتابعت موجات التضخم دولياً في ذلك العام، تماماً مثلما انتشر فيروس كورونا في العامين السابقين . كما خلقت هذه الموجات التضخمية من التحديات ما جعل العالم يقبع حالياً تحت ويلاتها. ليصبح السؤال الأكثر إلحاحاً الآن هو: ما هي الاتجاهات المتوقعة للتضخم خلال الشهور القليلة القادمة؟ وإلى أي مدى ستتعمق وتستمر التحديات التي أفرزتها موجاته للاقتصاد العالمي؟

إن أربعاً من الأزمات القطاعية المتشابكة والمتداخلة فيما بينها هي التي كرست من مشكلة التضخم العالمية بصورتها الراهنة، فأزمة الغذاء وارتباطها بأزمة النقل واللوجستيات، وأزمة الطاقة وانعكاساتها على أزمة المديونية الخارجية، قد تفاعلت كلها لتتمخض عن معدلات عالمية غير مسبوقة من التضخم، تجاوزت حاجز 10% في أسواق بعض الدول المتقدمة، وناهزت 30% في العديد من أسواق الدول الآخذة في النمو. واتصالاً بذلك، فإن اتجاهات التضخم خلال الشهور القليلة القادمة ستظل محكومة بالتغيرات المحتملة في مستوى هذه الأزمات الأربع، كما ستتأثر بمجريات الأمور في ثلاثة أقاليم جغرافية عالمية، وتحديداً في الصين والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي.

ولو أن أزمة الغذاء العالمية قد شهدت انفراجة ملحوظة في أسعار سلة الغذاء خلال الشهور الأخيرة مع تراجع قيمة مؤشر منظمة «الفاو» لأسعار الأغذية بنسبة 17.9% مقارنة بالذروة التي بلغها في مارس 2022، فإن استمرار مشكلات الشحن الدولي مازال يكبل أسعار الغذاء وتجارة الحبوب في وجهات دولية عديدة.

وأضف إلى ذلك أن استمرار أسعار النفط العالمية فوق حاجز 80 دولاراً للبرميل يعني اتساعاً مستمراً في عجوزات موازنات اقتصادات عديدة، ويفضي إلى مزيد من التفاقم في أزمتي الديون الخارجية وأسعار الصرف، ليتجلى كل ذلك في استمرار الضغوط التضخمية في أسواق هذه الدول.

وفي بيئة عالمية مازالت مشحونة بمحفزات التضخم، ستكون غاية ما ستسفر عنه سياسات التشديد النقدي وقرارات رفع أسعار الفائدة أن يستبدل التضخم السريع بتباطؤ متوقع في النمو الاقتصادي ليصل لنحو 1.7% خلال العام الجاري، مع استمرار الأسعار عند مستوياتها المرتفعة التي وصلت إليها بالفعل، أي أن كبح التضخم لا يعني بالضرورة تراجعاً في المستوى العام للأسعار، وهذا تحديداً هو أهم التحديات التي يخلقها التضخم حالياً في بيئة الاقتصاد العالمي.

لكن هناك بالطبع تحديات أخرى لا تقل أهمية عن ذلك، فالتضخم قد أثر سلبياً في هياكل الاستثمارات الوطنية من خلال تداعياته على أسواق الأوراق المالية الدولية، كما غيّر- ولا يزال - من وجهات التدفقات الرأسمالية العالمية على حساب الاقتصادات الأكثر حاجة إلى هذه التدفقات ولصالح الاقتصادات الأقل إصابة بهذا الداء العضال. ولئن كان ارتفاع الأسعار المحلية يعني بالضرورة انخفاضاً، وبنفس الدرجة تقريباً، في مستويات الأجور الحقيقية، فإن التضخم العالمي قد خلّف وراءه تحديات اجتماعية وإنسانية أكثر من أن تحصى.

وإذا كان من الواضح أن الاقتصاد العالمي قد وصل بالفعل لذروة أزمة التضخم عندما انتصف العام الماضي، فإن من الواضح كذلك أن تحديات هذا التضخم لم تصل لذروتها بعد، ذلك أن الطبيعة الاقتصادية/الاجتماعية لهذه التحديات، وحساسيتها المفرطة تجاه التوترات الجيوسياسية، يجعل وصولها للذروة متأخراً في غالب الأحيان عن توقيت حدوث مسبباتها. ومحاولات إنعاش الاقتصاد الصيني وتزامنها مع اتجاه الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لإبطاء سياسته لرفع الفائدة قد يثمران عن ازدهار حركة التجارة والاستثمار الدوليين، لكن ذلك لا يضمن بحد ذاته أن ينتشر هذا الازدهار عالمياً بنفس المستوى الذي انتشر به التضخم.

*باحثة اقتصادية - مركز تريندز للبحوث والاستشارات