أعتقد أن معظم دعاة السلام في العالم أصيبوا بخيبة أمل كبيرة بعد اختتام أعمال الدورة 59 من مؤتمر ميونيخ للأمن الذي عقد في الفترة من 17 إلى 19 فبراير 2023، وشارك فيه عشرات من رؤساء الدول والحكومات ووزراء الخارجية والدفاع والمسؤولين الأمنيين والعسكريين من قرابة (96) دولة، حيث كانوا يتوقعون إيجاد الآليات الضرورية واللازمة لتقريب وجهات النظر بين روسيا والصين من جهة والغرب من جهة أخرى، لتحقيق الهدف الأساسي الذي قام عليه مؤتمر ميونيخ للأمن في دورته الأولى عام 1963 في ميونخ، وكان يسمى «مؤتمر ميونخ للسياسة الأمنية» تحت شعار «السلام من خلال الحوار».

ليس في الدورة الأولى لمؤتمر ميونخ للأمن فحسب، بل استمرت على مدار العقود الأربعة الماضية، الدعوات المتتالية لتبادل وجهات النظر و«الحوار من أجل السلام» من قبل أهم صانعي القرار في سياسات الأمن الدولي، حيث كان يحضر كل عام ما يزيد على 350 شخصية بارزة على الأقل من أكثر من 70 دولة يناقشون التحديات الأمنية العالمية الحالية والمستقبلية التي تحظى بالأولوية القصوى، ويضعون أجندة عملية تتضمن البحث عن حلول عملية للمخاطر الأمنية التي تهدد العالم، وأذكر أن مؤتمر ميونخ للأمن في دورته للعام 2016 ناقش بقوة موضوعات مثل الصراع بين «الناتو» وروسيا، والأمن في سوريا ومحاربة «داعش»، وكذلك الأوضاع في الشرق الأوسط، والبرنامج النووي لكوريا الشمالية والمشكلات الأمنية في أفريقيا، إضافة إلى أزمات اللاجئين.

وفي عام 2017 ناقش المؤتمر في دورته 53 -وبحضور 30 رئيس دولة وحكومة، وما يقرب من 60 ممثلًا للمنظمات الدولية و65 من كبار رجال الأعمال، وبحضور وزير الخارجية الروسي«سيرجي لافروف» والأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريش» ونائب الرئيس الأميركي«مايك بنس»، ووزير الدفاع الأميركي«جيمس ماتيس» ووزير الخارجية الصيني«وانغ يي»، وغيرهم الكثير من صناع القرار، الذين بحثوا من أجل السلام- مخاطر الصحة العالمية، ومكافحة الإرهاب، وشؤون الشرق الأوسط وإيران، وكذلك السياسة الخارجية للصين والسياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه روسيا.

خيبة الأمل تلقاها رجال ودعاة السلام الذين يعلمون أن الحرب في أوكرانيا وكذلك التصعيد بين الولايات المتحدة والصين سوف يكون حقاً نهاية العالم! ولن تكون حرب عالمية ثالثة بالمفهوم التقليدي، بل ستكون «الحرب الأخيرة» التي ستقضي على العالم أجمع، حيث يتجاهل دعاة الحرب أن الأسلحة المتطورة اليوم ليست هي ذاتها في عام 1914 أو 1939، بل هي أسلحة نووية وبيولوجية وكيميائية واشعاعية وتكتيكية يمكنها خلال ساعات القضاء على الجنس البشري كله، من دون أي مجال للتراجع، وهذا التهديد حقيقي ولا يفصل العالم عنه سوى النزر اليسير جداً من التعقل الهش!

كان العقلاء ودعاة السلام يأملون أن تتم دعوة روسيا- بشكل لا يقبل الرفض- للجلوس على طاولة المناقشات لفتح صفحة واحدة صغيرة تكون بداية الأمل لنهاية الحرب الطاحنة في أوكرانيا، وبدل ذلك، جاءت معظم التصريحات والبيانات التي صدرت عن مؤتمر ميونخ للأمن لتصب النفط على النار، والدفع للمزيد من التصعيد ضد روسيا بمناقشة آليات تقديم الأسلحة والذخائر لأوكرانيا، حيث أعلنت الحكومة الأميركية، أن «روسيا ترتكب جرائم حرب في أوكرانيا، وهي جرائم ضد الإنسانية، وأنه يجب تحقيق العدالة ومحاسبة الجناة»، والذي يعني الانتقال إلى تأزيم عالي المستوى بين روسيا والولايات المتحدة، وستكون تمهيداً لمحاكمة القادة الروس كمجرمي حرب بالقانون الدولي، للوصول إلى إصدار قرارات أممية قد تسقط الحصانة الدولية عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظامه. كما حدث في طوكيو ويوغسلافيا السابقة ورواندا والسودان.

ولا شك أن روسيا لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه ذلك، حيث ستتبخر فوراً معاهدة «ستارت الجديدة» للحد من التسلح النووي بين أميركا وروسيا، وستعمد روسيا إلى المزيد من التصعيد الذي سيكسر «التعقل الهش» ويأتي على نهاية العالم!

دولة الإمارات العربية المتحدة لا تريد أن ينجرف العالم إلى تلك الحرب الأخيرة، بل تسعى، بفضل قيادتها الحكيمة الرشيدة إلى إصلاح كل ما يمكن إصلاحه بين روسيا وأوكرانيا، وروسيا والناتو، والصين والولايات المتحدة، وتجتهد القنوات الدبلوماسية الإماراتية في بذل الجهود تلو الجهود لوقف الحرب في أوكرانيا وتهدئة التصعيد المتزايد.

وأعتقد أن العاصمة أبوظبي مرشحة بقوة لاستضافة وتنظيم منتدى للأمن الدولي يكون شعاره «الحوار من أجل الأخوة الإنسانية»، ويُدعي إليه القادة السياسيون والأمنيون والأمم المتحدة ودعاة السلام ومحبوه حول العالم، وتُدعى إليه روسيا وأميركا والصين ودول الاتحاد الأوروبي وإسرائيل وإيران وكل الشخصيات والدول والأطراف الذين يمكنهم قبول السلام بديلاً للحرب الأخيرة التي بدأت رائحتها تخيف البشرية!

* لواء ركن طيار متقاعد