لم يتعرض مصطلح للتسفيه والتشويه أكثر من ما تعرض له مصطلح «العلمانية» في المنطقة العربية فمنذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي ومع بدايات حركات التنوير حدث تصادم عنيف ليس بالجديد فلقد خاضت فيه المجتمعات الغربية صراعاً مماثلاً انتهى بتغلب العلمانيين على القوى الراديكالية في أوروبا ومهد لقيام أنظمة حكم سياسية وفرت الحرية والعدالة والمساواة للشعوب، ومما لا جدال فيه فإن واحدة من معضلات العصر العربي تظل في شعوبية الناس وتحولهم إلى قطيع منقاد لأفكار تقليدية تقاوم التجديد بل إنها ترفض التحديث، فالتيارات التقليدية التي تتصدرها قوى الإسلام السياسي سنية وشيعية على حد سواء ترى أن أي اقتراب من دوائرها فيه فقدان لامتيازاتها التي حصلت عليها من وراء تسويقها لمفاهيمها في المجتمعات العربية. التنويريون حاولوا الالتفاف على واقع الحال بتقديمهم مصطلح الدولة المدنية باعتبارها وسيلة تمتص موجات التسفيه والشتائم العارمة.

وإذا كان المنعطف في تأسيس الكيانات الوطنية العربية جاء مع ثورة الضباط الأحرار في مصر عام 1952، فإن الدول التي حاولت عملياً تطبيق العلمانية في دساتيرها كانت مصر وتونس واليمن الجنوبية والعراق، لكنها في الواقع حاولت تقديم مزيج من العلمانية المغلفة بالدين. وحققت تجربة جمال عبدالناصر والحبيب بورقيبة وكذلك الجبهة القومية في عدن كسراً في القوالب والنمطيات السائدة آنذاك في مواجهة «الرجعية» وهو المصطلح المعاكس للدول القومية التي نشأت في منتصف القرن العشرين، وحتى ذلك المزيج لم يستطع تحقيق النجاح المقبول.

في نكسة عام 1967 أظهرت القوى الإسلاموية قدراً عالياً من الشماتة بالنظام السياسي المصري على اعتباره نظاماً علمانياً، وأن النكسة التي وقعت فيها مصر والدول العربية سببها في «التخلي عن العقيدة الإسلامية» بالكيفية التي يفسر بها الراديكاليون الإسلام، وعند تلكم اللحظة تفاقمت اللغة العدائية ضد كل محاولات التنوير العربية، وتلقت مع النكسة انتكاسة أخرى في الذات العربية، بحلول الثلث الأخير من القرن العشرين.

وفي العام 1979 حصلت القوى الأصولية على دفعة قوية مع الثورة الإيرانية وما يسمى «الصحوة» في البلدان السنيّة وهو ما مكّن للأصوليين استحواذاً على الذهنية العربية وقيادتها لتجريم الأفكار التنويرية. بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 تنبهت الدول لأهمية العلمانية وضرورة تقديم جرعات من الليبرالية للمجتمعات التي وجدت نفسها تعيش نزاعاً داخلياً تطلب ضرورة العلمنة العاجلة، فلقد تسبب الاشتباك المذهبي في صراع دموي متوحش كان لا بد من مواجهته.

الفصل تحقق بفضل أن القوى الحداثية وجدت من دعم السلطات السياسية ما خاضت به مواجهات حادة عبر ما توفر من وسائل إعلام أتاحت لها الفرصة لمقارعة الراديكاليين والأصوليين الذين حتى وهم يتعرون أمام أنفسهم ومجتمعاتهم كانوا يتحينون فرصة مواتية، أتيحت لهم مع موجة «الربيع العربي» فركبوا موجتها، وعندها تحولت الديمقراطية -وهي إحدى أدوات العلمانية- إلى حصان طروادة للوصول إلى السلطة وتحقيق غايتهم لإقامة خرافتهم المزعومة المسماة بـ«دولة الخلافة». المصريون بإسقاطهم حكم «الإخوان» في ثورة 30 يونيو 2013 مهدوا الطريق للدول الوطنية المعتدلة لتبرز حضورها كنماذج قادرة على تحجيم التيارات الظلامية.

وحان وقتها إدراك أن تحقق العلمانية في المنطقة العربية سيكون واقعاً مع تواصل حركات التنوير والتمسك بمكتسبات ما تحقق وعدم التراجع في مسيرة جيل يسلم لآخر أن المعاكس للعلمانية هي الدولة الدينية الفاشية المتسلطة على الناس والمانعة للابتكار، والمعطلة لدواليب الحياة والرافضة للطبيعة.

فالذين كانوا يؤمنون بأن الأرض مسطحة لا يمكنهم أن يكونوا في أزمنة الطفرات الجينية والتسابق الأممي للفضاء. العلمانية ليست كفراً كما أنها ليست ديناً بل هي أداة يحتاجها البشر للتنمية وللبقاء على الأرض التي حملوا أمانة إعمارها وليس قتل من عليها.

*كاتب يمني