ربما أصابت الاستقالة المعلنة لرئيسة الوزراء النيوزيلندية جاسيندا أرديرن محبيها في الخارج بالصدمة أكثر مما فعلت مع مواطنيها في الداخل. فعلى مدى أكثر من نصف عقد في السلطة، بدت أرديرن زعيمة تتناقض مكانتها على المسرح العالمي مع الصغر النسبي لأمتها وتقلبات سياساتها البرلمانية.

وكانت بطلة يسار الوسط في القرن الحادي والعشرين مدافعة قوية عن التعددية والتسامح داخل مجتمعها وفي أي مكان آخر، وداعية للعمل المناخي، وأيقونة نسوية عالمية. وصنع نموذج شخصيتها الجذابة وقدرتها على التعاطف ظاهرة اجتاحت العالم أصبح يطلق عليها «هوس جاسيندا».

لكن في الداخل، كانت سمعتها أكثر تباينا، وقرارها الاستقالة من المنصب جاء عقب فترة مضطربة خلال العامين الماضيين في المنصب. فقد أدت مناوراتها في أعقاب جائحة عالمية وقرارها بفرض إعطاء اللقاحات في سياقات معينة إلى رد فعل غاضب من قطاعات من الناخبين.

وهزت الاحتجاجات العنيفة المشهد السياسي الهادئ المعتاد في نيوزيلندا وأصبحت رئيسة الوزراء هدفا لموجة من الكراهية المناهضة للمؤسسة، وبعض هذا امتدت جذوره إلى التضليل عبر الإنترنت وكراهية النساء خارج الإنترنت. وهكذا، رأت جاسيندا (42 عاماً)، أنه من الأفضل النأي بنفسها عن الواجهة.

وقالت في مؤتمر صحفي مشحون بالعواطف في الأيام القليلة الماضية: «أعرف ما تتطلبه هذه الوظيفة. وأعلم أنه لم يعد في جعبتي ما يكفي للاضطلاع بها بشكل ملائم». وفي الأيام القليلة الماضية، اختار حزب العمال بزعامة جاسيندا وزير التعليم كريس هيبكينز زعيماً جديداً للحزب، كي يخلف جاسيندا في منصبها.

والتعديل في القيادة له هدف عملي، وهو مساعدة الحزب الحاكم على استعادة مكانته قبل الانتخابات المقبلة التي قد تتقدم فيها معارضة يمين الوسط. وكتب ريتشارد شو، أستاذ السياسة في جامعة ماسي بنيوزيلندا، يقول: «أصبحت جاسيندا شخصية أكثر استقطاباً. وبتنحيها الآن، تمنح حزبها متسعاً من الوقت لتنصيب مجموعة قيادية جديدة يمكنها ترك السنوات الثلاث الماضية وراء ظهرها والتركيز على المستقبل».

وجذبت جاسيندا الانتباه في جميع أنحاء العالم باعتبارها ثاني زعيمة في العالم الحديث تلد أثناء توليها منصبها في عام 2018، وبعد ذلك بوقت قصير، أحضرت طفلها إلى مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة، في إبراز للأعباء التي تتحملها جميع الأمهات العاملات. وكانت حكومتها بعد إعادة انتخابها عام 2020 هي الأكثر تنوعا في تاريخ نيوزيلندا، حيث تضمنت 40 بالمئة من النساء و25 بالمئة من الذين تمتد جذورهم الى قبائل الماوري من السكان الأصليين.

وفي عام 2019، تعرضت نيوزيلندا لهجوم إرهابي يميني متطرف على مسجدين في مدينة كرايستشيرش، قتل خلاله مسلح قومي أبيض 51 شخصاً. وجاء رد جاسيندا في التوجه إلى الطائفة المسلمة مرتدية حجاباً احتراماً لعادات ومشاعر المكلومين. ومثلت وجه حزن وآسى الأمة، ثم عزيمة الأمة أيضاً. وسعت حكومتها لإقرار تشريعات مهمة للتحكم في الأسلحة، وقادت جاسيندا بنفسها مسعى عالمياً لمواجهة التطرف والكراهية على الإنترنت.

وحين حلت الجائحة في العام التالي، جعلت جاسيندا نيوزيلندا في مقدمة قصة نجاح «صفر كوفيد» في العالم. ومن المؤكد أن الدولة الجزيرة كانت تنعم ببعدها الجغرافي، لكن حتى في وقت لاحق مع تخفيف الضوابط الحدودية وانتشار الفيروس، لم يكن لدى أي بلد في العالم الغربي معدل وفيات بسبب فيروس كورونا أقل من بلدها. وكان الفضل يرجع في هذا جزئياً لحملة ناجحة نفذتها حكومتها لإعطاء اللقاحات.

والأزمات الكثيرة التي حدثت خلال فترة ولاية أرديرن، وقدرتها على إدارتها، تعتبر ملمحاً بارزاً في تركتها. فقد كتب الأكاديمي مورجان جودفري في صحيفة جارديان «في كل كارثة، تصرفت رئيسة الوزراء بشكل حاسم، من حظر الأسلحة نصف الآلية وإصلاح قانون الأسلحة النارية إلى تطبيق نظام مستوى الإنذار الرائد عالمياً لسحق تفشي كوفيد-19».

وأضاف: «السرعة التي تواترت بها هذه الكوارث، والاستجابة السريعة أيضاً، جعلت الأمر يبدو كما لو أن فترة السنوات الخمس القصيرة التي قضتها رئيسة الوزراء في السلطة كانت حقاً أمداً طويلاً». وشعر منتقدوها بثقل هذا العصر. وعلى عكس رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، وهو شخصية محبوبة أخرى من يسار الوسط، خلقت جاسيندا لنفسها في النهاية قاعدة متشددة من المنتقدين. وكتب زميلي في واشنطن بوست مايكل ميللر يقول إن «السياسات التي جعلت نيوزيلندا ورئيسة وزرائها يحققان نجاحا في الخلو من الفيروس، هي نفسها التي جعلت جاسيندا أيضاً مصدر استفزاز لمعارضة الإغلاق واللقاحات».

ويرى ريتشارد جاكسون، أستاذ دراسات السلام في جامعة أوتاجو في دنيدن، نيوزيلندا: «لأنها كانت رمزاً عالمياً وجماهيرياً، أصبحت هدف كثير من هذه الهجمات. كان رأيهم أنها كانت تدمر المجتمع النيوزيلندي وتجلب الحكم الشيوعي، لكن العالم بأسره كان يشيد بها ويمدحها، وهذا أثار جنونهم». كتبت رئيسة الوزراء السابقة هيلين كلارك في بيان «الضغوط على رؤساء الوزراء تكون دائما كبيرة، لكن في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، واجتذاب الإعلانات على الإنترنت بأي ثمن، والدورات الإعلامية على مدار الساعة، واجهت جاسيندا مستوى من الكراهية والنقد اللاذع غير مسبوق في بلدنا بحسب علمي».

وتريد جاسيندا العودة إلى الحياة الخاصة، على الأقل في الوقت الحالي. وما سيحدث في الأشهر اللاحقة في ويلينجتون لن يكون مسؤوليتها، على الرغم من أن كثيرين من المحللين سيبحثون بلا شك عن بصماتها في الأحداث القادمة. وطريقة خروجها تمثل أيضا بصمة خاصة بها. فقد كتبت مونيكا هيسه في واشنطن بوست تقول «لقد عملت بجد قدر استطاعتها لأطول فترة ممكنة، ومن بين ما تركته أنها أظهرت ما يتطلبه الأمر لتصبح المرأة زعيمة وأما، وكيف أدى الأمر في نهاية المطاف إلى أنها لم تستطع الاستمرار في العمل بإخلاص وبالطريقة التي تروقها».

وقالت أرديرن أثناء إعلان استقالتها «آمل أن أترك النيوزيلنديين وقد تكونت لديهم عقيدة بأنه بمقدور المرء أن يكون لطيفا لكن قويا ومتعاطفا لكن حازما ومتفائلا لكن مركزا. ويمكنه أن يكون نمطا خاصا القادة، وشخص يعرف متى يحين وقت رحيله».

*كاتب متخصص في الشؤون الخارجية

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج آند سينديكيشن»