ترددت على مسامعي حين كنتُ لا أبلغ كتفي أمي جملةً لطالما استفزت فضولي النهم للاكتشاف، فكنتُ كلما أردت إرخاء المرسى لسفينة أفكاري، اصطدمت بصوت محبط يقول لي: «ستعرف كل شيء عندما تكبر»، فهل وصلتُ لتلك المعرفة أم ليس بعد؟ 
إن البناءَ المعرفي يتطلب اكتشافَ الحقائق المرتبطة بالمحيط الإنساني الأكثر صلة بالواقع، وهو الأمر الذي حاول الوصول إليه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في دراسته لفلسفة الأخلاق، منتهياً إلى الاعتراف بعدم تشابه الحقيقة، وذلك لاختلاف الزاوية التي يَنظر منها كل فرد للعالَم، ومن ذات المنطلق تفرعت أفكار محورية وذات بعد وتأثير كبير على حياة الإنسان، مثل «القانون لا يصنع الإنسان، بل الإنسان مَن يصنع القانون».. فكيف يمكن إدارة تبعات هذه الأفكار إذا لم تُحدَّد بأطر أخلاقية؟ 
إن تغيير الاتجاه الفكري للإنسان من مجرد متلقٍ ومتشرب لـ«عصارة معرفية تراثية» إلى ناقد وممحِّص هي إحدى أسمى الأهداف وأكثرها جدوى في تجاوز «كبوات» المعارف الإنسانية السابقة، والتي نصَّ عليها عدد من الفلسفات الغربية ولكنها لم تستمر في خط النجاح ذلك عندما وصلت لتحديد علاقة الإنسان بـ«ما وراء الطبيعة». ومن هنا كان منطلق التأسيس لـ«علمنة» الأخلاق، أي نسبتها للعلم وخطواته البحثية، وبالتالي استطاعت الفلسفةُ طرح الأخلاق بوصفها مكنوناً إنسانياً طبيعياً، نازعةً العامل الديني منها. وقد اختار كانط العلم كمنطق منظم والحكمة كحياة منظمة. وفي حين بات المنهج التجريبي يشكل عقيدة لدى الفلاسفة، فإنهم وبعد تقسيم الوجود إلى محسوس وغير محسوس، وجدوا أن الأخلاقَ والحريةَ والغيبَ والروح.. كلها غير قابلة للتجريب، وبالتالي فإن الإدراك الإنساني يقف موقف ضعف وقصور أمامها. 
وفي حين يتجه العالم نحو المسرب القيمي والأخلاقي، يتعين على الفلسفة تحديد موقعها من الفكر والمنطق والوجود بشكل كامل.. فهل يكفي القول بأن الشعور الأخلاقي جزء من «البداهة المركبة» التي فسرها كانط بأنها خليط من إدراكات مخزَّنة في العقل البشري غير خاضعة للتجربة؟ وهل يمكن الاستناد في هذا الخصوص إلى ما يدعى «الميول الفطرية»؟ وإذا كانت كل الأفعال الإنسانية المشروطة («الأوامر الافتراضية») لا تتصل بالأخلاق («الأوامر المطلقة»)، رغم مكانتها في الحياة العملية، فكيف للإنسان بـ«أخلقتها» حتى تستوي والجانب القيمي المنشود؟ 
إن النظر للمبادئ الكانطية ووضعها إزاء النظم والتشريعات الأخلاقية يفتقر لحلقة تجعلها أكثر دقةً، ففي حين يرى كانط أن تصرف الإنسان تجاه الآخر والطبيعة يجب أن ينطلق من افتراض أن الفعل الإنساني ذاته، الصادر عن الإرادة الفردية الحرة، يؤسس لقاعدة أخلاقية عامة ويأخذ الاختلافات بين البشر بعين الاعتبار. أما من منظوره للإنسانية فهو يرى أنها غاية قائمة بحد ذاتها ولا ينبغي تحوير التعامل مع الآخر للتحقيق الغائي. وفي هذا الجانب تمكن ملاحظة الحس الأخلاقي المتناغم مع ما يتبعه من مبدأ الاستقلالية القائم على فكرة الإرادة التشريعية العالمية المتمثلة في الإرادة الفردية لكل كائن عقلاني. 

ما يمكننا الخروج به من خلاصة حول التوجيه الكانطي في ما يتصل بأسس الأخلاق يتمثل في عدم الجمود على «أخلقة الأشياء»، قبل أن نسبق هذه المرحلة بـ«مَنطَقة» السلوك الأخلاقي وتوجيه الإرادة الإنسانية النابعة من «نية» قيمية نقية.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة