لا شك في أن الديمقراطية الأميركية في خطر. فقبل عامين، اقتحم آلاف من مثيري الشغب مقر الكونجرس واحتلوه في محاولة فاشلة لإلغاء نتائج انتخابات 2020. وحصل هؤلاء على دعم من غالبية الأعضاء «الجمهوريين» في الكونجرس ممن ادعوا باطلاً أن نتيجة الانتخابات مزورة.

وتظهر علامات مزعجة أخرى في جميع أنحاء البلاد. فأولياء الأمور الغاضبون يقتحمون اجتماعات مجالس إدارات المدارس ومجالس المدن مطالبين بحظر كتب وفصل معلمين. ويتجمع محتجون مسلحون يهددون بالخارج مسؤولي الانتخابات وهم يفرزون الأصوات في الداخل. والمجالس التشريعية للولايات التي يقودها جمهوريون تقر قوانين تقيد حقوق التصويت. وجرائم الكراهية وإطلاق النار العشوائي تواصل ارتفاعها.

ويهتف طلاب الجامعات من اليمين واليسار على حد سواء مطالبين بإسكات صوت المتحدثين الذين يختلفون معهم في الرأي. والجامعات تشغر بالضغط لطرد الأساتذة أو حظر الجماعات التي تتحدى وجهات النظر التقليدية. وأظهرت كارثة انتخاب رئيس مجلس النواب في الآونة الأخيرة، أن سياستنا شديدة الاستقطاب بسبب الحزبية المفرطة لدرجة أن الهيئة التشريعية لدينا الآن عاجزة عن الحركة أو بها حلل وظيفي. وفي ظل خلفية الترهيب تلك، يجب أن نفضح زيف الادعاء الذي كثيراً ما يُستشهد به ومفاده أن «الانتخابات الحرة والنزيهة هي جوهر الديمقراطية». فالانتخابات، على الرغم من أهميتها، مجرد مَعلم من معالم الديمقراطية، وليست جوهرها. والأهم من ذلك هو القيم التي يجب صقلها وحمايتها للحفاظ على نظام ديمقراطي حقيقي.

ومن أهم هذه العوامل أنه يجب على الخاسرين احترام نتائج الانتخابات، ويجب على الفائزين إظهار الاحترام لحقوق الخاسرين. ويجب حماية حقوق الذين تختلف وجهات نظرهم عن الأغلبية، ويجب على الرابحين والخاسرين، الأغلبية والأقلية، الانخراط في حوار بنّاء لإيجاد حلول وسط للمشكلات التي تواجه المجتمع ككل. فهذا هو جوهر الديمقراطية. والديمقراطية الحقيقية ليست لعبة محصلتها صفر يستخدم الفائزون فيها مواقعهم في السلطة لإسكات أو إلغاء أو إظهار عدم التسامح مع آراء الذين لحقتهم الهزيمة في انتخابات حرة ونزيهة.

فالدافع الاستبدادي لسحق أو معاقبة الذين يمثلون وجهات نظر مختلفة أمر مناهض للديمقراطية. ومن المهم التحلي باليقظة في غرس مثل هذه الثقافة الديمقراطية لأنه بدونها قد تذوي الديمقراطية وتموت. واحترام حقوق الأقليات ووجهات نظرهم أمر مهم في مجتمع به مجموعة واحدة مهيمنة بشكل واضح، وأكثر أهمية في المجتمعات المنقسمة بالتساوي.

فقد ارتاع كثيرون من المصريين من حكم الإخوان المسلمين بسبب سوء استخدامهم للفوز الانتخابي. واستبد الخوف بكثير من الإسرائيليين وكان رد فعلهم عنيفا على سلوك الائتلاف اليميني المتطرف المنتصر الذي يحكم إسرائيل حاليا ويهاجم سلطة القضاء وسيادة القانون وحقوق الأقليات.

وإذا لم تكن الديمقراطية محصلتها صفر، فالسياسة كذلك أيضا، خاصة في المجتمعات المتنوعة. وحين يتجاوز المنتصرون حدودهم ويفرضون أيديولوجياتهم أو يحاولون توسيع سلطتهم من خلال تغيير قواعد السير في الطريق، فإنهم يضعفون الديمقراطية ويستوجبون رد فعل عنيفاً من الجماعات المهددة بسلوكهم. وتقدم الولايات المتحدة اليوم مثالا على ذلك.

ففي عام 2022، فاز «الجمهوريون» في انتخابات محتدمة المنافسة للغاية، ويتمتعون حالياً بتفوق طفيف في مجلس النواب، لكنهم خسروا في مجلس الشيوخ. ومازال «الديمقراطيون» يسيطرون على البيت الأبيض. وبالنظر إلى هذه النتيجة، قد يعتقد المرء أن «الجمهوريين» و«الديمقراطيين»، المنقسمين بالتساوي بين الناخبين، سيسعون إلى حلول وسط للمشكلات الملحة التي تواجه البلاد، ويستخدم «الجمهوريون» في مجلس النواب نفوذهم للضغط من أجل التوصل لحلول وسط تعكس وجهات نظرهم.

وبدلاً من ذلك، قرر «الجمهوريون» استخدام سيطرتهم على مجلس النواب لعرقلة حركة الحكومة وتشويه صورة المعارضين، مطالبين بكل شيء أو لا شيء. ومثل هذا النهج ليس قاتلاً للخطاب المحترم والحلول الوسط فحسب، بل يسمم العلاقات السياسية أيضاً، ويخلق جمهوراً أكثر استقطاباً للناخبين. والسياسة هي «فن الممكن»، لكن يجب علينا أيضاً أن نعترف بالدور الحيوي الذي تلعبه المجموعات المدافعة بحماس عن المواقف القائمة على مبادئ أو الحلول الاستشرافية للمستقبل. وتاريخنا السياسي عامر بأمثلة لجماعات وقادة أصحاب رؤية أخلصوا لمبادئهم وحلولهم، وحركوا ميول الجمهور في اتجاه معين وغيروا الحسابات السياسية لمتخذي القرارات، وبالتالي جعلوا فن الممكن أكثر رحابة.

لكن حين تصبح الآراء السياسية عقائدية -أي جامدة ومطلقة ومتصلبة- فقد يؤدي هذا إلى نتائج عكسية ومدمرة للذات. وفي مثل هذه الحالات، يتم اعتبار السلوك السيئ للمتطرفين الذين لا يساومون على أنه «متمسك بالمبادئ»، بينما يتم استنكار الأصوات المعتدلة التي تبحث عن حلول باعتبارها «تخلياً عن المبادئ». وتصبح التسوية مستحيلة وتعاني الديمقراطية. وهذا، للأسف، هو ما نعيشه اليوم في أميركا. وهذا يضع ديمقراطيتنا ذاتها في خطر.

رئيس المعهد الأميركي العربي- واشنطن