لا أبالغ إذا قلت: ما مرَّ عامٌ مِن التَّاريخ بلا قتل لسبب دينيّ، وإنْ تداخلت الأسباب، يبقى الدينيّ الأقوى في التبرير، فأغلب المقتولين قضوا بفتوى فقيه أو بمحضر فقهاء. لكنَّ مِن أين أتت الإجازةُ في تشريع القتل، واعتبرها صكاً مقدساً؟! وفق ما يدعون إنَّ مصدر الفتوى هو الله بتوقيع المفتي، لأنَّه يُعدُّ وكيلاً مِن الله في الشَّأن الدِّينيّ والدُّنيويّ، مع أنَّ آيات تنفي الوكالة والسَّيطرة: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» (الغاشية: 22) و«وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» (الشُّورى: 6). 
غير أنَّ الرَّادَ على الوكلاء المفترضين يصبح راداً على الله، حتَّى قال ابن عساكر (ت: 571هج)، دفاعاً عن أبي الحسن الأشعريّ (ت: 324هج): «إنَّ لُحُوم الْعلمَاء، رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِم، مَسْمُومَةٌ، وعادةُ اللهِ في هتك أستار منتقصيهم معلومةٌ» (تبيين كذب المفتري). وجاء عنهم «العُلَماءَ ورَثةُ الأنبياءِ» (الصَّنعاني، سُبل الإسلام، الخميني، الحكومة الإسلاميَّة). كان هذا الحديث مبرراً لولاية الفقيه المُطلقة. ترجمه أحد فقهاء الزَّيديّة نظماً، ليُشاع ويسلم النَّاس به، قال ابن الوزير (ت: 840هج): «العلِمُ ميراثُ النّبي كذا أتى/في النّصِّ والعُلماء هم ورّاثُه» (الرَّوض الباسم). 
اعتبر ابن قيم الجوزيَّة (ت: 751هج) الفتوى توقيعاً عن الله، فعنوان كتابه «أعلام الموقعين عن ربِّ العالمين»، ولا يُفهم منها إلا الولاية بالنِّيابة: «وإذا كان منصب التَّوقيع عن الملوكِ بالمحل الذي لا يُنكر فضله، ولا يُجهل قدره، وهو مِن أعلى المراتب السَّنيات، فكيف بمنصب التَّوقيع عن ربِّ الأرضِ والسَّماء» (أعلام الموقعين). 
عند الشّيعة الفتوى مِن قِبل الموقعين عن الله أيضاً، ولكنَّ بإخراجٍ مختلفٍ، والمقصد واحد. يُنسب إلى جعفر الصَّادق (ت: 148هج)، قوله بالاختيار مِن أهل العِلم، للتحاكم وأخذ الفتوى: «... إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً مِن قضائنا، فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه» (الكُليني، كتاب الكافي). ومثلما قيل في الفكرِ السُّنيّ لُحُوم الْعلمَاء مَسْمُومَة، فكذلك في الفكر الشِّيعيّ تعتبر فتوى الفقيه إلهيَّة: «... فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه، فإنما بحُكم الله قد استخف، وعلينا ردَّ، والرَّاد علينا رادٌ على الله، وهو حدُّ الشُّرك بالله» (الكليني، نفسه). 
يكون في الفتيا عند الشيعة «المجتهد الجامع الشَّرائط، وهو ليس مرجعاً للفتيا فقط، بل له الولاية العامة، فيُرجع إليه في الحُكم والفصل والقضاء، وذلك مِن مختصاته، لا يجوز لأحد أنْ يتولاها دونه إلا بإذنه، كما لا تجوز إقامة الحدودِ، والتَّعزيرات إلا بإذنه... وهذه المنزلة أو الرَّئاسة العامة أعطاها الإمام عليه السَّلام (المنتظر) للمجتهد الجامع للشرائط، ليكون نائباً عنه في الغيبة، ولذلك يُسمَّى نائب الإمام» (المُظفر، عقائد الإماميَّة). 
بهذا يصبح نائب الإمام مُوقعاً عن الإمام الغائب، والإمام بدوره يكون موقعاً عن الله، لذا نجد في أمر حقّ الفتوى توقيع عن الله. عند السُّنة الفتوى نيابة عن الله مباشرةً، وعند الشِّيعة يكون التَّوقيع بوساطة الإمام. نقول: للمذاهب، على اختلافها، احترامها وتوقيرها في التَّعبد، لكنَّ في المعاملة والسِّياسة وما يتعلق بالدِّماء، مِن الحقّ الاستجارة بكتاب القرآن فليس فيه عقوبةُ قتلٍ إلا في القصاص، ولُحقت بتحبيذ العفو! نقول هذا لأنّ الفقهاء لهم توقيعاتهم بالقتل نيابة عن الله، مِن الّذين كتبوا محضراً بقتل شهاب الدِّين السَّهروَرديّ (587هج)، إلى المفتين بقتل الآلاف مِن المخالفين سياسياً (العراق 1963)، ومن فتاوى قاضي داعش الشَّرعيّ تركي البنعليّ، إلى فتاوى مفتي الميليشيات الولائية محمد كاظم الحائريّ (دليل المجاهد)، كل هؤلاء يدعون التَّوقيع عن ربِّ العالمين، وهم وكلاؤه وورثة نبيه!
* كاتب عراقي