في الشوارع المتعرجة قبالة خليج نابولي، عاش وعمل سيزار أتوليني، الحائك العظيم للبذلات ذات الأكتاف الناعمة. والمايسترو الذي توفي في نوفمبر الماضي عن 91 عاماً كان من بين عملائه نجوم الصف الأول لسينما الماضي والحاضر مثل كلارك جيبل وآل باتشينو ومارسيلو ماستروياني ودينزل واشنطن. وفي جنازته قبل شهر، ارتدى الممثل توني سيرفيلو السترة كنارية الصفرة التي ظهر بها في فيلم «الجمال العظيم» الحائز على جائزة الأوسكار.

وبوفاته، يلحق أتوليني بكوكبة إيطالية تضم ميشيل فيريرو، مبتكر النوتيلا، وليوناردو ديل فيكيو، أيقونة صناعة النظارات الحديثة. وهذا يعني أنه أصبح الأحدث في سلسلة طويلة من أصحاب الإنجازات في فترة ما بعد الحرب في إيطاليا الذين يغادرون الساحة. لكن حياة أتوليني وموته لديها ما تقوله عن المستقبل، وتحديداً درس عن مسارات الحرفيين في مقابل الوظائف في عصر الذكاء الاصطناعي. ونظراً لأن التكنولوجيا الرقمية أصبحت أكثر انتشاراً، فسيتم البحث عن اللمسة الإنسانية بشكل أكبر. ولهذا السبب، قد يكون موت أتوليني علامة جيدة، وليس النهاية، وبداية عصر جديد من إتقان الحرف اليدوية.

عاش أتوليني حياته في صناعة البزات من المهد إلى اللحد. وكان والده، فينتشنزو، أول من امتلك الشجاعة التي تحدت قيود البزات الإنجليزية التقليدية. وأحدث ثورة حين نجح في جعل السترة أنعم وأخف وزنا. ومن بين أطفال فينتشنزو الستة، كان سيزار هو الشخص الذي شارك والده نظرته ولمسته وشغفه. وسرعان ما انضم إلى الأعمال التجارية وتوسع ليشمل المزيد من العملاء الدوليين مقدماً منتجات أوسع نطاقاً. وأنتج بزات مصنوعة يدوياً تتطلب الواحدة منها ما تراوح بين 25 و30 ساعة عمل في نابولي. وأقام متاجر في ميلانو ونيويورك وميامي وموسكو للتجهيز والاختيار حسب الطلب. وفي الصيف، كانت أسرة أتوليني تذهب أيضا إلى اليخوت الراسية قبالة ساحل أمالفي في إيطاليا لتقديم خدماتهم لفاحشي الثراء الذين يقضون عطلاتهم هناك.

وقبل بضع سنوات زرت مصنعهم التاريخي قبل توسعته في مبان أكبر، في الوقت أصبح فيه محترفو التكنولوجيا في وادي السيليكون والأثرياء الصينيون الجدد مستعدين لدفع 50 ألف يورو (53 ألف دولار) في بزة فاخرة حيكت يدوياً. وكان سيزار حينها هناك يمر بأصابعه فوق خطوط متقاطعة صغيرة كما لو كان يعزف على البيانو. وفي الخزانة التي بها البزات التي انتهى العمل فيها في الطابق السفلي، علقت الملابس مع قصاصة من الورق الأبيض مكتوب عليها بخط اليد أسماء مشتريها، وكان من بينهم الرئيس الروسي السابق ديميتري ميدفيديف. ويصر أبناؤه جوزيبي وماسيميليانو اللذان يقودان الجيل الثالث من العائلة على أن الشركة لن تُباع. وهذا لا يعني أن أحداً لن يقترب منهم. فقد أكد ريناتو ماسون، رئيس اتحاد الحرفيين في منطقة فينيتو، أن عمليات الاستحواذ على شركات تصنيع السلع الراقية في إيطاليا بلغت أعلى مستوياتها على الإطلاق.

ويعود جزء من هذا الحماس إلى الطلب المستمر على سلع الرفاهية. لكن هناك أيضاً قصة أكثر تعقيداً. فهناك دراسة أجرتها مدرسة باريس للاقتصاد عام 2013 ويتم الاستشهاد بها غالباً بين المديرين التنفيذيين لشركات السلع الفاخرة. وهذه الدراسة تجادل أنه مع تزايد عدم المساواة يتزايد الإقبال على السلع الفاخرة ويزيد الطلب على مزيد من البذخ والتفرد مع رغبة الأثرياء في التميز. وهذا يلفت الانتباه إلى الحرف القديمة مثل صناعة الدانتيل والجلود والنسيج، والبدلات المحيكة يدوياً.
وتستحوذ بيوت الأزياء الراقية مثل (إل.في.إم.إتش) وهي المجموعة التي جعلت مالكها برنارد أرنو أغنى رجل في العالم، على شركات التصنيع الإيطالية. فقد أعلنت استحواذها على مشروعات «آلي» للدباغة الفلورنسية وشركة تصنيع الملابس الراقية «روبانز» في سبتمبر، وجمعتها في شركة تابعة تسمى (إل.في.إم.إتش متييه دي آر). ويعني شراء السيطرة على المورد الخاص بك أن منافسك لا يمكنه استخدامها. ويؤدي هذا أيضاً إلى البحث عن المزيد من الحرفيين المهرة.
وأفسح عقدان من تصنيع سلع الرفاهية المجال لعودة تعطش المستهلكين إلى البذخ. ونتيجة لذلك، تتدافع بيوت السلع الراقية سعياً وراء عمال مهرة. ودرب أتوليني حائكين جدداً على مدار عقود. ويعمل نحو 140 حرفياً في المقر الموسع لورشته. وأخبرني ماسيميليانو، نجل سيزار، أنهم يبحثون منذ فترة طويلة عن متدربين في عائلات صانعي الملابس الحاليين، في اعتقاد منهم كما اعتقد الملاك في القرون الماضية، أن المهارات تنتقل في دماء العائلة.

لكن هناك رسالة أبسط من حياة أتوليني. فيجادل ريتشارد سينيت، مؤسس معهد نيويورك للعلوم الإنسانية، في كتابه «الحرفي» الصادر عام 2008، أن الحرفة تجسد الدافع البشري الأساسي الدائم للرغبة في القيام بعمل جيد في حد ذاته ولذاته. ويتعارض هذا مع الوظائف «التي تقيس قدرة الشخص على معالجة مشكلات كثيرة على حساب العمق فيما يناسب نظاماً اقتصادياً يعطي قيمة للدراسة السريعة والمعرفة السطحية، وهو ما يجسده غالباً المستشارون الذي يدخلون الشركات ويخرجون منها سريعاً».

وترسم حياة أتوليني وموته هذا الانقسام. يقول ابنه جوزيبي إن العمل الذي أولع به أتوليني ظل يشغل فكره حتى ساعاته الأخيرة على مائدة عشاء العائلة. وبعدها ذهب إلى الفراش ولا يستيقظ مرة أخرى. ويقول جوزيبي: «حتى ذاك المساء كنا نتحدث عن العمل». كان أتوليني يبلغ من العمر 91 عاماً وظل مرتبطاً بزوجته آنا 65 عاماً. وبالنسبة للعمال ذوي الياقات البيضاء الذين يتنافسون مع الروبوتات على الصدارة، ربما تكون الكرامة الإنسانية البسيطة للحياة المصنوعة يدوياً رفاهية حقيقية.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»