ما تسمع به وتقرأ عنه غير ما تقف على أثره، لهذا قال معروف الرُّصافيّ (ت: 1945): «فإن ذكروا النُّعمانَ يوماً فلا تثق/ بأكثرَ مما قال عنه الخوَرنقُ» (الدِّيوان، ضِلال التَّاريخ)، والخورنقُ قصر النُّعمان بن امرئ القيس (القرن الخامس الميلادي) الشَّهير بحِيرة العِراق. فعندما قرأت عن اكتشاف دير بجزيرة السَّينية، يعود بناؤها إلى القرن السَّادس الميلادي، صعب تصديق النبأ، فالجزيرة خالية مِن ملامح حضارة قديمة ظاهرة، أخذتُ ما قاله الرصافي على محمل الجد، فوجدتُ الجدران وقُطع الفخار تُغني عن المقال. 
سألت الآثاري الشاب الإماراتي عمار البنا، المولود (1998) بدبي: ما الذي جعلك تُكرس حياتك لآثار الأقدمين، وجل الشَّباب يتوجهون إلى إدارة الأعمال وعالم الإلكترون؟! قال: منذ الصّغر أحب التاريخ، فوجدتُ ضالتي في دراسة الآثار بجامعة السوربون بأبوظبي، وبعد نيل البكالوريوس وجدت عملاً في مديرية الآثار بإمارة أمّ القيوين، والآن أعمل مع البعثة الإيطاليَّة على هذه الجزيرة. 
كانت أساسات جدران الكنيسة وسط الدير تنطق بتاريخها، فمِن الكربون حُدد تاريخها السَّنة (540م)، أي قبل عام الفيل (571م) المفترض. شيدت بأحجار مِن ساحل الجزيرة، حوت قاعة القداس، وزاوية المذبح المتجه شرقاً، كعادة الكنائس، مع حوض العِماد سالماً، وحولها غُرف لسكن الرُّهبان. 
كان طرازها شبيهاً بما أُكتشف بجزيرة صير بني ياس (1994)، مِن إمارة أبوظبي، وهذه وكنيسة السِّينية تعدان محطات لانطلاق الكنيسة الشرقية مِن العراق نحو الهند والصّين، وقاعدتها أبرشية «فرات ميسان» بالبصرة (أبونا، تاريخ الكنيسة الشّرقيَّة)، ذلك يوم كانت الكنيسة الشَّرقية أو النِّسطوريّة (نسبة للراهب نسطور) الوحيدة بالشّرق، قبل وصول حملات التّبشير الكاثوليكيّة العراق، خلال السّيطرة العثمانيَّة. 
ما يطمأن إليه، مِن أن كنيستي الصِّير والسَّينية محطات للكنيسة الشَّرقيَّة إلى الهند، هو وصول الراهب مار توما مِن المدائن بالعراق، ويأتي خبر قتله بالهند (حبي، كنيسة المشرق الكلدانيَّة- الآثوريَّة). فخلال العمل في «الأديان والمذاهب بالعِراق» (صدر ثلاثة أجزاء عن مركز المسبار للدراسات والبحوث 2016)، زرت كنيسة مار توما بأبوظبي، وتحدثت مع راعيها الأب جوهن أتارايل، فأشار إلى وصول المبشر مار توما إلى «كيرالا» الهندية، وبها كنيسة باسمه، وأن مسيحيي كيرالا على المذهب النِّسطوريّ، إن لم يقلها فهمتها مِن وجود زوجة له وأطفال، وإلى فترة قريبة يُبعث إلى كيرالا راهب عراقي، حتَّى تم تكريس راهب مِن المنطقة. 
لا تبدو الكنيستان (الصِّير والسِّينية) فقط على سواحل الخليج العربيّ، فكان اسم «بيث قطرايي» يتردد في تاريخ الكنيسة الشَّرقيّة، على أنها محطة صوب الهند. لما سألتُ الآثاريّ عمار كيف طرأ على البال وجود آثار بمكان قصي غير مسكونٍ وغير مزروع، ولا كتاباً ولا عمراناً يدل عليه، فأمامنا سلسلة كثبان جرداء؟! قال: «عادة يتوقع الآثاريون وجود حضارة تحت الكُثبان التي تنتشر حولها الأحجار وقطع الفخار، فلما حفرنا وجدنا البناء». 
أرخ للأديرة والكنائس قديماً أبو الحسن الشَّابُشتي (ت: 388هج) في كتابه «الدَّيارات»، ولأبي الفرج الأصفهاني (ت: 356هج) «الدَّيارات» أيضاً، وما ذَكره ياقوت الحَمويّ (ت: 626 هج) في «معجم البلدان» مِن الأديرة، لكنَّ كم منها مازال تحت الرِّمال والأتربة، مثل التي نحن بصددها! 
تركتُ الآثاري عمار وحيداً فريداً على الجزيرة، ينتظر وصول كبير المنقبين وزملائه الطّليان، وآثاريين شباب متطوعين، عبر القارب مِن ميناء أم القيوين، للتنقيب في دائر الدَّير، بعد اكتشاف آثار مسجد مشيد في القرن الـ 17 الميلادي، وهو الآخر غطت جدرانه كُثبان الرِّمال. 

* كاتب عراقي