الخير والشر، النور والظلام.. ثنائيات وجدليات لطالما ارتبطت بمصطلحات ذات صلة بترجمة السلوك الإنساني، والتي تعتبر «الأخلاق» أكثرها شيوعاً. وفي حين تنظر «عين الإدراك» الإنسانية بعجالة لكل سلوك بغية وزنه في ميزان الخيرية ونقيضها، فإنها تقف عند بعض السلوكيات التي يمكن تصنيفها في باب جديد، لا سيما أنه لا مجال أمام إرادة الإنسان للتحكم فيها، مثل تغيرات علامات جسده الحيوية، أو تنفسه أو غيرها. وبالتالي فإن السلوك الإنساني القابل للمعاينة النقدية هو ذلك الذي يخضع لإرادته، ويستطيع التأثير والتحكم فيه بشكل مباشر. 
وبالتالي فهناك هيئة وكينونة أخلاقية تقع على عاتق الإنسان، طالما هو صاحب إرادة حرة، وعقل سليم بيولوجياً يمكّنه من اتخاذ قراراته، مع موافقة ذلك للأمور التي تقع ضمن حدود قدرته، وبالتالي فالإرادة هي الوجه الآخر للمسؤولية الأخلاقية، والتي تبلورت من خلال تشريع قانوني، فنرى إلزاماً قانونياً وضعياً في المجتمع من جهة، وإلزاماً أخلاقياً إنسانياً من جهة ثانية.. فأيهما ذا دور أكبر في تعميم الحالة الأخلاقية؟ وهل يمكن الاستغناء عن أحدهما دون الآخر؟ ربما هنا نستطيع ملاحظة الضرورة التكاملية في مثل هذه الحالات التي تضع القيم والمبادئ الأخلاقية في ميزان تحديد الكم والكيف. 
وفي معاينة هذا الأساس، إزاء البيئة الغربية التي مرت بظروف مختلفة قبل وصولها لنقلة نوعية من التطور، وخلع عباءة الإذعان الشامل لسطوة الكنيسة، نجد أن المنظومة الأخلاقية تأثرت بمتلازمة مغروسة في الوعي الإنساني، وهي تلك التي تربط بين الأخلاق والدين كضرورتين لازمتين ومتلازمتين. وهو الأمر ذاته الذي يدفع أتباع ديانات مختلفة للاتجاه نحو «التفضيل الذاتي»، والإيمان بنزعة تفوقهم على الجنس البشري ككل من باب حوزتهم الأخلاقية المستلة من الدين، رغم أن الأخلاق لا تعتبر وليدةَ الدين، بل إن الدين هو إرادة إلهية مثبتة ومعززة ومؤكدة ومتممة للمنظومة القيمية والأخلاقية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارم الأخلاقِ»، إذ لم يقل «لأُنشئ» بل قال «لأتمم». وبالتالي فلا يصح اتهام أصحاب المنهج الوضعي بالفقر الأخلاقي. 
وفي هذا المقام، كيف يمكن تفسير هذه المقارنة في ظل تعمق فلسفي غربي حول الأخلاق يتجاوز بمراحل عديدة الطرح الشرقي؟ وهل استطاع العقل الغربي استثمار أدوات المعرفة في فهم صورة الأخلاق متفوقاً على غيره؟ لا سيما أن التحليل النقدي الحقيقي للأخلاق في الشرق انحصر الكثير منه حتى بات أقرب لمعيارية ضيقة الأفق في «العلاقة بين الجنسين» و«التزام عادات وتقاليد المكارم الموروثة»، مع أن الأخلاق مظلة واسعة جداً تتعدى ذلك لتشمل معظم أحداث الواقع المعاشة. 
إن الحديث عن الأخلاق بصورتها العامة يبدو فيه الكثير من الضبابية، لكن التدقيق في الجزيئات يقودنا لمفارقات في القراءة الأخلاقية، ففي حين يعتبر «الشذوذ الجنسي» والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج الشرعي، حرية لدى بعض الدول الغربية، نجد أنه انحراف مرفوض في المجتمعات الشرقية، لكن في الوقت ذاته نجد التزاماً صارماً في خُلُق «الأمانة» واحترام المواعيد، على سبيل المثال لا الحصر، في المجتمع الغربي، في حين نفتقد ذلك في المجتمع الشرقي.
ولذلك لا نستطيع إطلاق الأحكام وتقرير أخلاقية مجتمع على مجتمع، بكلمة واحدة، فالتعميم من العمى وقصر البصيرة، وهو تعبير عن القصور النقدي والمعرفي الدقيق. ومن هنا يجب التنبه عند دراسة المواضيع ذات البعد الإنساني العميق إلى ضرورة إحاطة جوانبه المعرفية بعيداً عن احتكاره لنظرية فلسفية أو تيار اعتقادي أو جماعة دون غيرها. مع التأكيد على ضرورة تأصيل الأساس الأخلاقي في المجتمعات الإنسانية أياً كان تكوينها الثقافي والمعرفي، وبخاصة أنه أساس استمرار أي حضارة وديمومتها، ومن دونه يتجه الإنسان إلى اللاجدوى، ويسقط في مأزق النزاعات والكراهية كأقل تقدير. وكما يقول الشاعر أحمد شوقي: «وإذا أصيب القوم في أخلاقهم... فأقم عليهم مأتماً وعويلاً». 

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة