بمناسبة رحيل البابا بنديكت السادس عشر، قرأنا مقالات عديدة حول تجديده الكبير في اللاهوت المسيحي، وبصفة خاصة لاهوت الحب ولاهوت الحقيقة. والواقع أن البابا المتوفَّى كان من كبار اللاهوتيين وله إسهامات بارزة في فلسفة الدين، رغم ما يتهم به من نزوع تقليدي محافظ ومن تشبث بالتقليد الأوغسطيني القديم.

بهذه المناسبة، قارن البعض بين رجل الدين المسيحي الراحل وعلماء الإسلام الحاليين الذين لا أحد منهم لديه اهتمام يذكر بالمباحث العقدية والفلسفية. بل إن علم الكلام الذي هو تقريباً النسخة الإسلامية من اللاهوت، تراجع الاهتمام به إلى حد بعيد في العقود الأخيرة، رغم أنه كان من مرتكزات التعليم الديني في المجتمعات المسلمة.

ولقد شاع بوضوح منذ المراحل الأولى للفكر الإصلاحي الإسلامي الحديث، أن المسلك إلى التجديد والنهوض إنما يتم عن طريق الاجتهاد الفقهي والمنهج الأصولي، وليس عن طريق الكلام الذي اعتبره الكثيرون متجاوزاً وقليل الأهمية. بل إن المحاولات الأولى التي جرت من أجل تجديد علم الكلام (لدى محمد عبده مثلاً في رسالته للتوحيد) لم تتجاوز فكرة تعويضه بتصور عقلاني نفعي ومصلحي بدل مباحث الطبيعيات والإلهيات التقليدية.

وبما أن العقيدة الأشعرية هي المسيطرة على مذهب أهل السنة، فقد شاع أنها مصدر انحطاط الأمة وجمود الفكر وتبرير الطغيان والاستبداد، وهي اتهامات باطلة وزائفة لا دليل يعضدها.

في السنوات الأخيرة، كاد الاهتمام بعلم الكلام الإسلامي أن ينحصر في دوائر الاستشراق والإسلاميات الغربية، وقد حظي بعناية خاصة لدى ذوي التكوين اللاهوتي المسيحي مثل لويس غارديه وجوزف فان أس ودانيال جيماريه.. إلخ.

ولا شك أن السؤال الذي شغل هؤلاء هو: هل يمكن اعتبار علم الكلام الإسلامي لاهوتاً أم مجرد طريقة في الجدل أم ضرباً من فلسفة الدين؟ كان غارديه يقول إن الفرق الأساسي بين الكلام واللاهوت هو أنه لا يتعرض لموضوع عقلنة الاعتقاد وبناء مذهب رسمي في طبيعة الألوهية على غرار الفكر الديني المسيحي، بينما اعتبر «فان أس» أن الأساس في منظومة الاعتقاد الإسلامية هو العمل والممارسة والانخراط في الجماعة لا النظر والاعتقاد والضمير الذاتي.

إلا أن هذه المقاربة تحتاج إلى التصويب في اتجاهات ثلاث: أولاً: صحيح أن علم الكلام وإن كان موضوعه هو صفات الله وأفعاله وليس طبيعة الذات الإلهية التي لا خلاف على أنها لا تدرك بالعقل والتأويل، فإنه مع ذلك بلور عُدّةً مفهوميةً ونظريةً واسعةً لا تقل أهميةً في البناء التصوري وقوة الاستدلال والبرهان عن اللاهوت المسيحي. الفرق الوحيد بين التقليدين هو أن مبحث الإلهيات بمفهومه الدقيق انتقل في السياق الإسلامي إلى التصوف وليس الكلام، وسلك طريق الإشارة والذوق وليس العقل المجرد الذي لا أثر له في التجربة الإيمانية العميقة.

ثانياً: إن علم الكلام اتجه في الطبيعيات والأخلاقيات إلى دراسة مجرى الفعل الإلهي في الكون والنفس، أي ما عبّر عنه ابن سينا بمجرى الخير في العالم. ولقد نجم عن هذا الموقف نمط من استقلالية النظر في هذين المجالين عن البراهين والأدلة النصية من منطلق ما ذهب إليه المعتزلة وجل الأشاعرة من أسبقية الاستدلال العقلي على التصديق الإيماني ومن تناسب صحيح النقل وصريح العقل.

وعلى عكس اللاهوتيين المسيحيين الذين اعتمدوا في مجملهم الكوسمولوجيا الأرسطية، بلور المتكلمون نظريات جديدة في الطبيعة تقوم على التصور الذري المجرد للأجسام المركبة (على غرار المقاربات الرياضية غير الحسية) والقول بالحركة الآنية بدلاً من نظرية الحركة الممتدة الأرسطية. وبدلاً من النظرية الضروراتية الأرسطية بلور المتكلمون إشكاليةَ الإرادة الحرة في علاقتها بتعدد العوالم وخلق الأفعال، وهي إشكالية تنبع من مقاييس التعالي الإلهي وتكرس قطيعة حاسمة مع التقليد اليوناني القديم.

ثالثاً: على الرغم من اختلاف الكلام عن الفلسفة من حيث الهدف والمنهج، إلا أنهما تداخلا بقوة وتأثرا ببعضهما البعض، بما نلمسه في الحركية المزدوجة: الصياغة الفلسفية للحدوس الكلامية لدى ابن سينا والصياغة الكلامية للإلهيات الفلسفية الذي بدأ مع أبي هاشم الجبائي واكتمل مع فخر الدين الرازي.

لقد انجر عن هذا التداخل الكثيف بروز إشكالات جديدة في الفكر الفلسفي من قبيل التمييز بين الشيء والوجود ومحايثة الوجود ووحدته الانطولوجية.. وهي المفاهيم التي رسمت، كما يرى الآن «دي لابيرا»، طريقَ الحداثة الفلسفية وإن تشكلت جذورُها الأصلية في علم الكلام الإسلامي.

*أكاديمي موريتاني