كثير من الدارسين ينظرون إلى التنمية على أنها مرتبطة بالاقتصاد، بمعنى أن التنمية الحقيقية هي التنمية الاقتصادية وحدها بحيث تعني التغيير في بنية اقتصاد الدولة في جوانبه المتعددة على صعيد إنتاج السلع والخدمات المتواجدة فيه، وإلى الأفضل مع تزايد ما بين هذه القطاعات من ترابط. وبهذا المعنى، فإن التنمية تقاس بأهمية القطاعات الفرعية في الاقتصاد الشامل، كقطاع الصناعات التحويلية الخفيفة وإسهام تلك القطاعات في الناتج القومي الإجمالي للدولة المعنية.

هذا يعتبر مفهوماً ضيقاً للتنمية في هذه المرحلة من تطور الدول التي نال معظمها استقلاله فيما بعد الحرب العالمية الثانية، فهو مفهوم غربي صرف يعكس الواقع الذي عاشته دول أوروبا في المراحل الأولى لما عرف في تاريخها فيما بعد القرون الوسطى بالثورة الصناعية، وهو مفهوم لا يصلح للاستخدام حالياً لدى الدول النامية التي أضحت في مراحل ما بعد الاستقلال تبحث عن تنمية تركز من خلالها على إصلاح أوضاعها الداخلية على كافة الأصعدة والقطاعات.
إن المفهوم التنموي الذي سقناه ويخص أمم الغرب يعني في بعض معانيه العلاقات الاقتصادية ما بين الدول وما يرتبط بذلك من حاجة إلى تحقيق السلام بينها ودخول مقولات العولمة في ذلك لكي تتمهد الطرق لإقامة علاقات اقتصادية متبادلة ومثمرة، وهذا هو ما يعرف بالاقتصاد السياسي.

التنمية التي نتحدث عنها، هي التي تحدث وتدار في داخل دول العالم النامي، وهي مفهوم ذو دلالات وجوانب اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، وهذا يعني أنه مفهوم شامل لا يرتبط بجزء معين من المجتمع دون أن يرتبط بالأجزاء الأخرى.
التنمية ليست حكراً بيد بيروقراطية الدول وحدها، كما هو شائع الآن في جميع دول العالم النامي. وبهذا المعنى تصبح التنمية إطار عمل وطني من المفترض أو حتى من الواجب أن يشترك فيه الجميع دون استثناء، بدءاً بالحكومات ممثلة في بيروقراطية الدولة، مروراً بالمؤسسات والقطاعات والهيئات الاقتصادية والاجتماعية، وانتهاءً بالمواطنين العاديين القادرين على العطاء في كافة المجالات المرتبطة بالتنمية، كل حسب الأدوار المحددة المنوطة به جميع الدول النامية ترفع شعار مفاده أن «الإنسان، هو محور التنمية»، وهدفها الأول ووسيلتها التي تتحقق من خلاله.
فإذا كان الأمر كذلك، فإن الوضع يحتم أن يشارك الإنسان في رسم سياسات التنمية، وأن يبذل جهده في سبيل تحقيق أهداف تلك السياسات أياً كان وضعه ومركزه في المجتمع.
وحقيقة أن الإنسان لا يمكنه تأدية هذا الدور ما لم تتاح له الفرص وتوفر له الضمانات وتهيأ له الأسباب والإمكانيات لكي تصبح مشاركاته وإسهاماته ذات مردود إيجابي على عمليات التنمية في مجملها.
وفي هذا السياق، فإن فكرة التنمية تتطلب تغييراً جذرياً في فكر الإنسان وقدراته وسلوكياته، لأن هذا التغيير يعد وسيلة تفضي إلى غاية. وفي الوقت نفسه غاية في حد ذاتها ضمن عمليات التنمية.
لذلك، فإن العديد ممن أسهموا في بلورة مقولة التنمية يوردون عدداً من الشروط لتحقيق عمليات التنمية في مجملها: فأولاً، لا بد من إزاحة المعوقات التي تحول دون انبثاق الإمكانيات الذاتية الكافية في داخل كيان الدولة الهادفة إلى إجراء التنمية لديها.
ثانياً، توفير الترتيبات المؤسسية اللازمة التي تساعد على نمو الإمكانيات البشرية المنبثقة إلى أقصى درجة ممكنة.
ثالثاً، توفر القدرة البشرية اللازمة للتحكم في الظروف الموضوعية المتواجدة والتي تتكون من الفرد والمجتمع والبيئة البيروقراطية.
رابعاً، وجود تعاون بناء بين أفراد المجتمع ككل لتحقيق التنمية المنشودة.
خامساً، وجود قدر من الحرية الفردية والجماعية في داخل المجتمع يتيح للأفراد وللمجتمع القدرة على التحرك الحر لممارسة الأنشطة اللازمة.
سادساً، وضع استراتيجية واضحة ومتفق عليها لتحقيق الأهداف الإيجابية للتنمية وتفادي الجوانب السلبية.
سابعاً، وأخيراً وجود سلام ووئام وأمن وأمان وطمأنينة في داخل المجتمع تشعر أفراده بأنهم آمنون ومطمئنون على أرواحهم وأموالهم وذرياتهم ما يمكنهم من ممارسة أدوارهم التنموية دون خوف أو وجل أو تردد.
* كاتب إماراتي