جاءت الأزمةُ النقدية الناجمة عن إخضاع البنك الفيديرالي الأميركي حركة «الدولار العراقي» لرقابته وفرض عقوبات على عدد من المصارف بزعم ممارستها عمليات تهريب وغسيل أموال، لتنضاف إلى سلسلة التحديات التي تواجهها حكومة محمد شياع السوداني، والتي تبدأ بضرورة إصدار موازنة الدولة للعام الحالي، بعدما تعذر على الحكومة السابقة إصدار موازنة للعام الماضي، بسبب «الانسداد السياسي»، دون أن تنتهي هذه التحديات بصعوبة تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي شامل، مع التركيز على إصلاح القطاع المصرفي الذي يعاني تشوهاتٍ كثيرةً ومتنوعةً أفقدته ثقة المستثمرين العرب والأجانب (وحتى العراقيين)، حيث تبين أن نحو 73% من الكتلة النقدية بعيدة من الدورة المصرفية. 
وقد أحدثت الخطوة الأميركية انخفاضاً في سعر صرف الدينار العراقي، وتسببت في إرباك كبير للحركة المالية والتجارية، وأدى إلى اشتباك سياسي وقانوني حول ما وصفه فريق من الأحزاب بأنه «اختراق لسيادة العراق على نقده الوطني وحركة أمواله»، مطالباً بالتحرر من الشروط والقيود الأميركية.
وفي الوقت نفسه، برز موقف لرئيس الحكومة أوضح فيه أن «تغيير سعر الصرف من صلاحيات البنك المركزي، ونحن ملتزمون بإنفاذه». وحث المركزي على تحقيق الاستقرار العام للأسعار، وفقاً لمهماته المنصوص عليها في المادتين الثانية والثالثة من قانونه، واللتين تنصان على تحقيق استقرار سعر الصرف المحلي وتنظيم ومراقبة عمل المصارف وتعزيز سلامة وكفاءة أنظمة الدفع وتطوير نظام المدفوعات. وأكد السوداني على اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع المضاربات غير القانونية وكل ما يضر بالسوق المحلية. 
ويبدو أن الرقابة الأميركية، كانت ضمن اتفاق سياسي شاركت فيه الولايات المتحدة، بشأن تشكيل الحكومة الحالية، ومن أبرز شروطه منع تهريب الدولار، أو تحويله إلى بعض الجماعات المسلحة عن طريق المصارف التي تسيطر عليها أحزاب سياسية، خصوصاً بعدما تبين أن معدل البيع اليومي في «مزاد العملة» وصل إلى نحو 250 مليون دولار، بينما الإنفاق الفعلي للتحويلات التجارية والمدفوعات الحقيقية لا يزيد عن 80 مليون دولار.
وانطلاقاً من أن الولايات المتحدة تمتلك سلطتها الخاصة على الدولار، كونه تنتجه وتصدره، وبما أن عائدات النفط العراقي تودع منذ سنوات لدى البنك الفيديرالي الأميركي، الذي يلبي سحوبات بغداد وتغطية «مزاد العملة»، فقد اتخذ بدوره إجراءاتٍ تفرض شروطاً مشددةً تلزم الجانبَ العراقي بعرض قوائم أسماء الأشخاص والجهات المستفيدة من «الدولار المباع» للموافقة عليها، وله أن يرفض كلَّ طلب تُوجد على صاحبه شبهةُ تهريب أموال أو غسيلها أو يخضع للعقوبات أو يتعامل مع جماعات إرهابية.
ومع اعترافه بأهمية المنصة الجديدة للرقابة الأميركية، لجهة ضبط حركة «الدولار العراقي» وحماية القطاع المصرفي، فقد أكد محافظ البنك المركزي مصطفى غالب مخيف أن «أزمة العملة الأجنبية أزمة طارئة لأسباب فنية، وقد تزامنت مع العمل بالمنصة الإلكترونية». وفي سياق متصل، تجري اتصالات بين بغداد وواشنطن لتنظيم التعامل مع الدولار وتطبيق الإجراءات السليمة، على أمل أن يؤدي ذلك تدريجياً (في رأي المتفائلين) لانخفاض سعر الدولار إلى 1400 دينار، بعدما وصل مؤخرا إلى نحو 1600 دينار. لكن لـ«المتشائمين» رأي آخر، وهم يتوقعون أن تستمرّ الأزمةُ مع قيام احتجاجات شعبية، وصولاً إلى انهيار الدينار ليتجاوز سعر الدولار الألفي دينار، وهذا ما سيؤثّر سلباً على الحكومة، إذا لم تنجح في معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وبخاصة المالية والنقدية، مع العلم أنها تحظى بدعم سياسي وبرلماني، فضلا عن الدعم الإقليمي والدولي. 

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية