تستضيف العاصمة أبوظبي العام القادم 2024 المؤتمر الوزاري الثالث عشر لمنظمة التجارة العالمية، والذي يعتبر المؤتمر الأهم منذ تأسيس المنظمة عام 1995، وذلك لاعتبارات عديدة سنأتي على ذكرها لاحقاً. فهذه المنظمة التي أُقيمت من أجل تسهيل حركة التجارة الدولية وإزالة العقبات من أمامها، بما في ذلك العقبات الجمركية والإجراءات الحمائية والبيروقراطية ودعم النمو، حققت بعضَ التقدم من خلال تحرير تجارة بعض أنواع السلع، كما ساعدت في حل العديد من المعضلات والمشاكل من خلال اللجوء إليها للتحكيم في القضايا التجارية والحمائية محل الخلاف بين الدول الأعضاء.

وللحقيقة، فقد تميّز عملُ المنظمة بالحيادية في اتخاذ قراراتها التحكيمية، إذ حكمت في بعض الأوقات لصالح دول صغيرة ضد دول كبيرة، والعكس صحيح، كما توصَّلت إلى اتفاقيات جماعية مهمة، وبالأخص ضمن ما سمي بـ«حزمة جنيف» التي سعت إلى تدعيم التبادل التجاري العادل، وحماية حقوق الملكية الفكرية.. إلا أن التطورات المتسارعة التي أعقبت المؤتمر الثاني عشر الأخير أثَّرت بشدة في أعمال المنظمة، وبالأخص مماطلة بعض الدول في تنفيذ القرارات التجارية التي اتخذت لغير صالحها، كما وجَّهت الحربُ الأوكرانية الروسية ضربةً موجعةً لدَور المنظمة وأعاقت التبادل التجاري بسبب الخلافات التي دبّت بين أعضائها.

ويعني ذلك أن منظمة التجارة العالمية تواجه تحدياتٍ حقيقيةً تستلزم العملَ على الحد منها لتتمكن من القيام بواجباتها ولتنفيذ الاتفاقيات التي تنعكس إيجابياً على التبادل التجاري العالمي وتفيد كافة الدول، بما فيها متدنية النمو، حيث تساهم في تنشيط الحركة التجارية، وبالتالي تحسين مستويات المعيشة وتوفير المزيد من فرص العمل. ومع أنه ليس من السهل توقّع تجاوز المنظمة كافةَ التحديات التي تواجهها، فإن هناك عوامل مشجعة تدعو للتفاؤل، يأتي في مقدمتها عقد المؤتمر الثالث عشر بأبوظبي، حيث تعتبر دولة الإمارات أحد أهم المراكز التجارية الإقليمية والعالمية، وهو ما يعني أن هناك تجربةً تجاريةً غنيةً يمكن الاستفادة منها وتسخيرها للمساهمة في وضع حلول عملية لهذه التحديات. كما أن التجربة السابقة لدولة الإمارات، ودول مجلس التعاون الخليجي بشكل عام، أثبتت قدرةَ هذه الدول على تقديم نسخ ناجحة ومميزة للمناسبات العالمية التي تستضيفها، كاجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين التي استضافتهما دبي في عام 2003.

وضمن هذه التجربة تمتلك الإماراتُ خبرةً مهمةً في التبادل التجاري الرقمي، وهي تجربة تراكمت خلال السنوات القليلة الماضية، مما يسهِّل التبادلات التجارية ويحسن الأداء ويزيد المنفعةَ المتبادلةَ.

وفي مجال التحكيم تمكنت دولة الإمارات من إقامة مراكز إقليمية وعالمية للتحكيم التجاري، كما أنها تمتلك منظومة من القوانين والأنظمة ضمن بنية تشريعية تجارية متقدمة يمكن الاستفادة منها في عمل منظمة التجارة العالمية مستقبلاً. ومن ناحية أخرى تدرك دولةُ الإمارات الأهميةَ القصوى للبنية التحتية والنقل اللوجستي في تنمية التبادل التجاري بين الدول، فتجربة جبل علي وميناء خليفة ومنطقة الحمرية (بالشارقة) وميناء الفجيرة، بالإضافة إلى وسائل النقل البحري والجوي.. تشكِّل جميعُها منظومةً متكاملةً لتنميّة القطاع التجاري.

وحتى انعقاد المؤتمر القادم في الربع الأول من عام 2024 من المحتمل أن تضع الحرب الأوكرانية الروسية أوزارها، مما يعني إزالة عقبة كبيرة وأساسية أمام التعاون الدولي في كافة المجالات، بما فيها المجال التجاري، حيث ساهمت هذه الحرب في عرقلة مجالاتٍ تفاوضيةِ مهمةٍ، وفي وضع قيود تجارية حمائية تُعتبر ذاتَ طبيعة مؤقتة بسبب الحرب الدائرة، وما تمخض عنها من إجراءات وإجراءات مضادة أضرّت كثيراً بالتبادل التجاري بين الدول.

مجمل هذه وغيرها من العوامل تشكل أرضيةً قويةً لتحقيق نجاح مميز لمؤتمر منظمة التجارة العالمية القادم بأبوظبي، والذي يمكن أن يشكّل نقلةً نوعيةً لعمل المنظمة، والذي سيجد له انعكاساتٍ إيجابيةً مؤثرةً على حركة التجارة الدولية وعلى النمو العالمي.

*خبير ومستشار اقتصادي