يودع العالَمُ واحدةً من أسوأ أزماته الاقتصادية خلال القرن الحالي، إذ بعد سنوات قليلة من بدء التعافي من الأزمة المالية العالمية في عام 2008، اجتاحت العالَمَ جائحةُ كورونا التي عطَّلت الأنشطةَ في معظم القطاعات وأدت إلى تدهور اقتصادي شامل وإلى توقّف شبه تام لبعض القطاعات، كالنقل الجوي والسياحة والفندقة والمطاعم.
ومع تنفّس العالَم الصعداءَ وبدء العودة التدريجية بعد التعافي من «كوفيد-19» ومحاصرته، حدثت كارثةٌ أخرى تمثلت في الحرب الأوكرانية لتبدأ مرحلة أخرى من التدهور الاقتصادي الناجم عن التراجع الكبير في سلاسل الإمدادات، بما فيها الغذائية وتدهور القطاع الصناعي الحيوي بسبب نقص مصادر الطاقة، وما أعقبه من ارتفاع كبير في مستويات التضخم وتدهور المستويات المعيشية في الكثير من البلدان.
وفي ظل هذه الصورة القاتمة يستقبل العالَمُ بعد يومين عاماً جديداً مليئاً بالقلق والخوف من جهة، وبالأمل بتحسن الظروف وإنهاء الحرب الأوكرانية من جهة أخرى، ليستعيد الاقتصادُ العالميُ عافيتَه وتعود سلاسلُ الإمدادات لوتيرتها السابقة، وبالتالي انكسار حدة معدلات التضخم المرتفعة جداً وعودة العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدول إلى حالتها الطبيعية.
هذان الاحتمالان يهمان كافةَ الشعوب والدول التي عانت الكثيرَ في السنوات الثلاث الماضية، إذ سنحاول إلقاء بعض الضوء على آفاق التطورات الاقتصادية في العام الجديد، حيث يبدو من البيانات المتوفرة أن الآفاقَ في معظم المناطق وفي الاقتصادات الرئيسية لا تشير إلى أي تحسن متوقع في عام 2023، فأزمة الطاقة سوف تستمر وقد تتعقد مع وضع سقوف لأسعار النفط والغاز، وهو ما سيؤدي إلى نقص في تلبية الاحتياجات من الغاز والبترول، مما يعني تعطلَ بعض مرافق الإنتاج ونقص السلع، وبالتالي ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم، وبالأخص في أوروبا وأميركا الشمالية.
ومع أنه تم تخفيض استهلاك الطاقة بدايةَ الشتاء الحالي من خلال تخفيض الاستهلاك المنزلي بصورة أساسية، وهو ما أثار استياءً عاماً في القارة، فإن مثل هذا التخفيض أمرٌ غير ممكن بالنسبة للقطاعات الإنتاجية، وهو ما يعني استمرارَ الأزمة وتداعياتها الخطيرة، حيث يتوقع أن تبقى معدلات التضخم مرتفعة، على الرغم من إمكانية انخفاضها بنسبة بسيطة، حيث سيؤدي ذلك إلى رفع معدلات الفائدة مرة أخرى في العام المقبل، مع ما يعقبه من آثار سلبية على النمو وتنشيط الدورة الاقتصادية، حيث خفض صندوق النقد الدولي من توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي في عام 2023 من 2.9% إلى 2.7%. وتوقع الصندوق أن يشهد العالَمُ ركوداً اقتصادياً سيشعر به ملايين الأشخاص في مختلف البلدان، حيث يعتبر معدل النمو العالَمي المتوقع هو الأضعف منذ عام 2001.
ومع ذلك، فإن نِسب النمو والتأثيرات الاقتصادية ومعدلات التضخم ستتفاوت من منطقة إلى أخرى، حيث ستعاني الدول المتقدمة والأقل نمواً المستوردة للطاقة أكثر من غيرها، إذ ستتأثر بصورة مزدوجة، أي من أسعار الطاقة المرتفعة، ومن ارتفاع أسعار السلع والخدمات الناجم عن التضخم، وهو ما سيؤدي إلى انكماش هذه الاقتصادات، فيما عدا الاقتصاد الأميركي الذي سيحقق نسبة نمو إيجابية. أما بعض البلدان، كدول مجلس التعاون الخليجي والهند والصين ومصر، فتوقعاتها الاقتصادية إيجابية للغاية، حيث ستحقق كل من دول المجلس والهند نسب نمو عالية تبلغ 6.5%، في حين ستحقق مصر نسبة نمو جيدة تصل إلى 4.8% والصين 2.3%.. وفق صندوق النقد الدولي.
وفيما يخص دول مجلس التعاون بصورة عامة، فإن معدلات التضخم ستبقى ضمن النطاقات المقبولة، كما أنها جميعاً ستحقق فوائض في موازناتها السنوية، بما في ذلك سلطنة عمان حيث سيتحول العجز إلى فائض في ظل بقاء أسعار النفط عند معدلات مرتفعة، أما الدول الخمس الأخرى فقد أعلنت جميعُها عن فوائض في موازناتها السنوية.
هذا التفاوت في الأداء الاقتصادي بين الدول، والذي أشرنا إلى بعض أسبابه بصورة مختصرة، يعني أن معاناة العالَم الاقتصادية سوف تستمر في عام 2023، ألا أنها ستتفاوت أيضاً بين دولة وأخرى، فالبعض سوف يشد حزامه على بطنه، في حين سيتمكن البعض الآخر من إرخائه للحصول على مزيد من الأوكسجين لتنشيط دورته الدموية!

*خبير ومستشار اقتصادي