هل تتذكرون حروب دونالد ترامب التجارية التي كانت أخبارُها تتصدر الصفحات الأولى للجرائد؟ في هذه المرحلة، تكاد التخوفات بشأن سياسة ترامب الخاصة بالرسوم الجمركية تبدو غريبةً، غير أن بعض الرسوم التي فرضها ترامب ما زالت موجودة، ومؤخراً أعلنت منظمة التجارة العالمية، التي يفترض أن تَسهر على تطبيق قواعد التجارة العالمية، أن الأسس المنطقية لهذه الرسوم -التي كانت ضرورية من أجل حماية الأمن القومي الأميركي- غير شرعية. وبدورها، ردت إدارة بايدن على «منظمة التجارة العالمية»، بلغةٍ صريحة ومفاجئة، أن تذهب لحال سبيلها! 
وهذا أمر مهم جداً، بل أهم بكثير من نوبات غضب ترامب بشأن الرسوم الجمركية. ذلك أن إدارة بايدن أصبحت صارمة على نحو لافت بشأن التجارة، وعلى نحو منطقي بالنظر إلى حالة العالم، لكنها تجعلني متوتراً جداً كذلك. قد يكون ترامب أحدث صخباً وجلبةً، لكن بايدن أخذ يغيّر بهدوء القواعدَ الأساسية للنظام الاقتصادي العالمي. 
منذ عام 1948، كانت التجارة بين اقتصادات السوق تخضع لـ«الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة» («الغات»)، التي تحدد بعض القواعد والمبادئ بخصوص الرسوم الجمركية والتجارة. وفي سنة 1994 تم دمج «الغات» ضمن قوانين منظمة التجارة العالمية. 
نظام «الغات» و«منظمة التجارة العالمية» لا ينص على أي مستوى معين من الرسوم الجمركية، غير أنه يحظر على البلدان فرضَ رسوم جديدة أو غيرها من القيود على التجارة الدولية إلا في ظل شروط معينة. وأحد هذه الشروط، التي بيّنتها المادة 21، يقول إن الدول تستطيع اتخاذ إجراءات «تعتبرها ضروريةً لحماية مصالحها الأمنية الأساسية». 
وإذا بدا ذلك غير محدد أو مقيد، فلأنه كذلك. ومن الواضح أن ترامب استغل هذا الامتياز، إذ زعم أننا في حاجة لفرض رسوم على الصلب والألومنيوم من أجل حماية بلدنا من تهديد الواردات الكندية. 
والواقع أن الرسوم على المعادن الكندية زالت، شأنها شأن معظم الرسوم المماثلة على صادرات أوروبا. لكن الرسوم على صادرات الصين ما زالت قائمة. والأهم من ذلك أن إدارة بايدن أعلنت أن «منظمةَ التجارة العالمية» لا اختصاص لها في المسألة: فالأمر منوط بأميركا لتحديد ما إن كانت إجراءاتها التجارية ضروريةً للأمن القومي، ولا يحق لمنظمة دولية نقض ذاك الحكم. 
مهلاً، ماذا؟ وفقاً لليمين، فإن بايدن وجماعته عولميون، وغير صارمين إزاء الصين، وغير مستعدين للدفاع عن أميركا.. فلماذا أصبحوا صارمين لهذه الدرجة؟ 
جزءٌ من الجواب يكمن في حقيقة أن صنّاع السياسات الأميركيين باتوا أكثر وعياً من أي وقت مضى بالتهديدات التي يمكن أن تفرضها بعض الأنظمة على ديمقراطيات العالَم. فالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أظهرت أن بعض هذه الأنظمة تلجأ أحياناً إلى القوة العسكرية حتى حين لا يكون ذلك منطقياً، ومحاولة موسكو معاقبةَ أوروبا من خلال قطع تدفق الغاز الطبيعي تُبرز خطر الابتزاز الاقتصادي. 
صحيح أن الصين ليست روسيا، لكنها أيضاً ليست من البلدان الغربية. وإدارة بايدن تحاول حالياً الحدّ من قدرة الصين على التأثير، مع تركيزٍ خاصٍ على أشباه الموصلات التي تلعب دوراً مركزياً في العالم الحديث. 
ومن جهة، تقوم أميركا حالياً بدعم الإنتاج المحلي لأشباه الموصلات، إذ تهدف إلى تقليص الاعتماد على الصين من بين مورّدين آخرين. وعلاوة على ذلك، فرضت الولايات المتحدة قواعدَ جديدةً ترمي إلى الحدّ من وصول الصين إلى التكنولوجيا المتقدمة لأشباه الموصلات، أي أنها تسعى بشكل متعمد إلى إعاقة القدرة التكنولوجية الصينية. وهذا أمر متشدد جداً، ويمكنك معه أن تعرف لماذا أشعرُ بالتوتر. 
والواقع أنه من السهل تصوّر الصين تلجأ إلى «منظمة التجارة العالمية»، بدعوى أن هذه الإجراءات تشكّل انتهاكاً لقواعد التجارة الدولية. لكن الولايات المتحدة أشّرت سلفاً إلى أنها لا تكترث لذلك، وإلى أنها تعتبر هذه السياسات تقع خارج اختصاص «منظمة التجارة العالمية». 
لكن مهلاً، هناك المزيد. فالإنجاز الأكبر لإدارة بايدن من حيث السياسات حتى الآن هو سنّ «قانون خفض التضخم»، الذي يتعلق بمحاربة تغير المناخ إلى حد كبير على الرغم مما يوحي به اسمه. وهو يفعل ذلك من خلال دعم الطاقة النظيفة بشكل رئيسي، وهذا أمر جيد. لكن الدعم لديه جانب قومي قوي، وعلى سبيل المثال فإن الائتمانات الضريبية للسيارات الكهربائية تقتصر على المركبات التي تجمّع في أميركا الشمالية. 
وعلى نحو شبه أكيد، فقد كانت هذه القومية الاقتصادية، التي تسمح لنشطاء المناخ بالإشارة إلى كل الوظائف التي خلقها دعم الطاقة الخضراء، أساسيةً من أجل تمرير مشروع القانون. لكن هل تمثل انتهاكاً لقواعد التجارة؟ الحقيقة أنني لستُ واثقاً بشأن الكيفية التي ستدافع بها إدارة بايدن عن هذه السياسة إذا تم تحدّيها والطعن فيها، لكنها قد تقول إن حماية البيئة موضوعُ أمنٍ قومي. 
وقد يكون ذلك أيضاً الدفاع المقدَّم لاتفاقية مقترحة بين الولايات المتحدة وأوروبا من أجل فرض «رسوم تستند إلى المناخ» على الصلب الصيني. 
غير أنه إذا كانت الولايات المتحدة، التي يمكن القول إنها هي التي أنشأت النظام التجاري لما بعد الحرب العالمية الثانية، مستعدة لليّ القواعد من أجل تحقيق أهدافها الاستراتيجية، فهل يمكن أن ينطوي هذا على خطر تنامي الحماية عبر العالم؟ أجل، هذا صحيح. 
غير أنني أرى أن إدارة بايدن فعلت الشيء الصائب. صحيح أن «الغات» مهمة، لكنها ليست أهم من حماية الديمقراطية وإنقاذ الكوكب! 

ينشر بترتيب خاص مع «خدمة نيويورك تايمز»


Canonical URL: https://www.nytimes.com/2022/12/12/opinion/america-trade-biden.html