في ربيع عام 1999، حينما كان خابير زامورا في التاسعة من عمره، غادر قريتَه في السلفادور. كانت عائلته قد لجأت إلى خدمات أحد المهرِّبين لمساعدته على عبور الحدود الجنوبية للولايات المتحدة الأميركية بطريقة غير قانونية والالتحاق بوالديه اللذين كانا يعيشان في كاليفورنيا. أميركا، يكتب خابير وهو يقترب من وجهته، «بلد الأفلام، والفشار، والبيتزا في وجبات الغداء المدرسية، والتعارك بكرات الثلج، والمسابح، ومتاجر (تويز آر أس)، ومطاعم ماكدونالدز».
بعد مرور ثلاثة وعشرين عاماً، ما زالت جاذبية أميركا قوية كما كانت دائماً. إذ تواصل آلاف الأُسر التدفقَ على الحدود نفسها، والكثير منها مصحوبة بأطفال صغار مثل خابير، ما يتسبب في أزمة إنسانية وفرصة سياسية في آن معاً. فقد انتهز حاكمان «جمهوريان» في فلوريدا وتكساس هذه الفرصة، فأرسلا حافلات وطائرات مملوءة بالمهاجرين إلى مدن في الشمال، مثل واشنطن، آملين تسليط الضوء على موضوع يجد له صدى عند قاعدة حزبهم. ويتعلق الأمر بالطبع بحيلة واستغلال سياسي خبيث لمأساة إنسانية وأُسر متأزمة تعاني، لكنه وضع يثير أسئلة ملحة كذلك: مَن هم هؤلاء الأشخاص؟ ولماذا يأتون إلى أميركا (أو «غرينغولانديا»، كما يسمّونها هناك في السلفادور)؟ وكيف كانت رحلتهم؟
مذكرات زامورا التي صدرت في وقت مواتٍ جداً توفِّر بعض الإجابات. رحلة كانت يفترض أن تستغرق أسبوعين تمتد إلى تسعة أسابيع يركب فيها خابير حافلات وقوارب، ويمشى عبر الصحاري، ويختبئ من «لا ميغرا»، أي حرس الحدود المخيفين الذين قبضوا عليه في المرة الأولى حين عبَر الحدودَ فأعادوه إلى المكسيك. لكنه يتمكن من بلوغ هدفه في الأخير، ويلتحق بوالديه، ثم يصبح شاعراً ينشر أول ديوان له بعنوان «من دون صحبة» قبل خمس سنوات. 
كتاب السيرة الذاتية «سوليتو»، والتي تعني «وحيداً» باللغة الإسبانية، يحكي بتفاصيل جذابة وآسرة عن رحلته إلى أميركا حين كان طفلاً، تلك البلاد الساحرة، بلاد الأحلام الكبيرة وساندويتشات الـ«بيغ ماك». لكنها أكثر من مجرد قصة هجرة، إنها قصة طفل في التاسعة من عمره حنّكته الحياةُ في رحلته نحو الكبر والنضج وبلوغ مبلغ الرجال. 

  •  مذكرات طفل مهاجر إلى «الفردوس الأميركي»

تبدأ قصة خابير في قرية «لا هيرادورا»، حيث يعيش مع جديه وأقاربه. إنها تيمة شائعة، إذ أن الكثير من الآباء العاملين يفرّون من شظف العيش وقصر ذات اليد في السلفادور، تاركين وراءهم الصغار والمسنين. يقول زامورا: «بالنسبة لمعظمنا، كان الأجداد هم الذين يحضرون فعاليات يوم الأم ويوم الأب». غادر والده عندما كان رضيعاً في عامه الأول، وبعده غادرت والدتُه عندما كان عمره 5 سنوات، وكان لا يلتقي بهما سوى كصوتين من دون جسد على الهاتف، والذي لم تكن عائلته تملكه، إذ كان الطفل خابير يضطر للمشي إلى منزل صاحب المخبز المحلي لتلقّي مكالماتهما. ويحكي المؤلف: «لم ألتقِ بوالدي أبداً، أم تراني التقيته ولا أذكر؟». وعن والدته يقول: «أحاولُ أن أتذكر رائحة أمي، لكنني لا أستطيع. وهذا بالضبط ما يسعدني ويثير حماسي حين سأراها مجدداً: أن أكتشف رائحتَها من جديد». 
ومهما تكن همّة الشخص وتحمّسه لمغادرة وطنه، فإن المغادرة مؤلمة دائماً، وكذلك الحال بالنسبة للفتى خابير. «سأرى والدي قريباً، لكن سالي وأبويليتا ولوبي وجوليا ولُعبي وكلبي وطائري وزملائي في الصف والقط.. كل ذلك لن أراه قريباً». ثم إنه ما زال صغيراً جداً طريّ العود وغير مستعد لمتطلبات الرحلة بعد، إذ يقول في لحظة بوحٍ: «إنني لا أحبُّ استخدام المرحاض.. فأنا أخاف أن أجرَف مع دفق المياه». كما أنه مضطر لارتداء حذاء ذي شريط لاصق: «لا أعرفُ كيف أربط حذائي بشكل صحيح.. لقد حاول جدي أن يعلّمني ذلك.. لكني لم أتعلم بشكل كامل». 
وبعد رحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر على متن قارب صغير للدخول إلى المكسيك من الجنوب، يصف خابير رائحةَ المحركات الكريهة التي علقت به: «الوقود في شعري، وداخل أظافري، وبين ساقي، وفي قميصي، وسروالي، وملابسي الداخلية. أم تراها الرائحة علقت في منخري، وفي لساني».
وبعد أن ألقي عليه القبضُ وصديقيه تشينو وباتريشيا، وأُلقي بهم في مركبة، كتب يقول عن تلك اللحظة: «ظل تشينو يحاول فتح الباب. يركل المقعد الذي أمامه. ويركل الحاجز المعدني. ويركل الباب. إنه كلب مسعور. السيارة برمتها تهتز. وفي غضون ذلك، كانت باتريشيا تصرخ: لا، لا». ويقول خابير: «كنت أريد أن أبكي، لكن الدموع لا تطاوعني». لاحقاً، أُودعوا السجنَ جميعاً. ويكتب عن هذه التجربة فيقول: «إنني في حديقة حيوانات. أنا حمار مع واحد وعشرين حماراً آخر. الجميع متجهمون، ولا أحد يبتسم». 
خلال كل أطوار هذه التجربة القاسية يكبر خابير بسرعة. وبعد أن أعطاه بعضُ المرافقين الأكبرَ سناً سيجارتَه الأولى، كتب يقول: «بدأت أسعلُ ولم أكف عن السعال. فضربني مارسيلو على ظهري بقوة ثم قال لي: (لقد صرتَ رجلاً الآن). إنني أشعر بالفعل بأنني أصبحت أكبر سناً الآن. كما لو أن الدخان منحني الشجاعةَ كي أركب ذلك القاربَ. وكي لا أبكي. وكي أكون هنا الآن في بلد آخر من دون جديّ». 
وأخيراً، يتمكن زامورا من الالتقاء بوالديه اللذين فارقهما صغيراً. وقد يجد القارئُ نفسَه سعيداً بهذه النهاية، لكن هذه القصة الواقعية المؤثِّرة لا تخلو من بعض العيوب الكبيرة. ومن ذلك أنها طويلة جداً، وتشتمل على العديد من العبارات الإسبانية التي لم تُترجم. لكن بشكل عام، يظل هذا كتاباً قيِّماً لأنه يضع وجهاً إنسانياً، وجه طفل، على كل أولئك المهاجرين المجهولين الذين يراهم الأميركيون على الأخبار كبيادق في لعبة سياسية. كتاب يذكِّرهم مرةً أخرى بمساهمات مهاجرين مثل خابير في إغناء الثقافة الأميركية في أحيان كثيرة، وبطرق كثيرة. 

محمد وقيف

الكتاب: «سوليتو».. مذكرات (وحيداً.. مذكرات)
المؤلف: خابير زامورا
الناشر: هوغاث
تاريخ النشر: سبتمبر 2022

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنينج آند سينديكيشن»