اختلفت الألسن بلفظِ «جِدَّة»، فالجداويون اليوم يلفظونها بكسر الجيم، بينما رأيتُ ببعض أزقة حارتها القديمة، كُتبت بالفتح. أمَّا البلدانيون، كياقوت الحمويّ(ت: 622هج)، فأوردوها بضم عينها «جُدَّة»، ولكلِّ مِن تلك الحركات معنى. هذا، وادعى أهلها القدماء اسمها نسبة لحواء جدة البشر، فلها أثرُ قبرٍ أو مقامٍ في وسطها، هذا ولكلِّ أهل بلدٍ ما يعتقدون. ولأنَّها السَّاحل الأقرب إلى مكة أصبحت محط قدم الحاجّ والمعتمر، مدى تاريخ الإسلام والمسلمين. 
تُذَكَرنا مشربيات حارتها القديمة بشناشيل البّصرة، فهي توأمها في الموقع البحريّ، ومِن تلك الشَّناشيل عُقدت الآصرة بين الشَّاعر البصريّ بدر شاكر السِّياب(ت: 1964) والأحسائي محمد بن عبد الله العليّ، حيث رائعة السِّياب «شناشيل ابنة الجلبي»، وإذا كان السَّياب أبرز رواد حداثة الشِّعر، فكان العلي ناقلها وناشرها ببلاده. 
كانت أهم المناسبات، التي تزامنت مع معرض جِدَّة للكتاب (7-17/2022)، تكريم الشَّاعر والتَّنويريّ العليّ في دورة هذا العام مِن جائزة الأمير عبد الله الفيصل، فلم يكن العليّ رائداً في حداثة الشِّعر فحسب، بل في الحداثة الاجتماعية بالجزيرة، يوم كانت الحداثة تعدّ تجاوزاً على التَّقاليد والقيم. أراد والد العليّ أنّ يكون لولده شأن فقهي، فبعثه إلى النَّجف، حيث الدِّراسة الحوزويَّة هناك. 
لكنَّ هوى العليّ مع الأدب والفكر، لا مع القيد المذهبيّ وضوابط الفقه، فمع اعتمار العِمامة والتَّظاهر بالمواظبة على الدّرس الدينيّ، كان يقرأ سِراً الكتب التي يشتريها من مكتبات النَّجف، وهي فضاء مفتوح لأمثاله، حتَّى أخذ يتعثر بجبته وعمامته، وهناك زامل شبيهه في الظُّروف العلامة حسين مروّة (اغتيل: 1987). 
انتقلا كلاهما إلى الفضاء الحُرِّ، وإذ لم يكمل مروة الدِّراسة الفقهيَّة، واظب عليها العليّ في كلية الفقه ببغداد بعد النَّجف، دون خلعِ عمامته، حتَّى انتهاء الدراسة(1964)، العِمامة التي خلعها مروّة مبكراً، بعد الميل يساراً، وودعها بسلسلة «أنا وعمامتي»، نشرتها «الهاتف» النَّجفيَّة، لمنشئها جعفر الخليليّ(ت: 1985). 
ظل مروّة باحثاً وناقداً، حتَّى أغنانا بسِفر ليس كمثله، عند المتقدمين والمتأخرين، في هذا المجال: «النَّزعات الماديَّة في الفلسفة العربية الإسلاميَّة»(الفارابي 1978). 
حار الورى بانتماء العلي السِّياسيّ، فعهدذاك لا يُفهم الإنسان أنْ يكون تقدمياً متنوراً دون ربطه بتنظيم ما. ظل داعيةً مستقلاً إلى التَّنوير والتَّقدم، في شعره ونثره، دون انتماء، ولكم تثمين ما قدمه العلي طوال عمره المديد، وهو الآن ناف على التّسعين، ولم تعينه قواه لحضور تكريمه، فحضر نيابة نجلته ونجله. 
نقرأ في تكريم العليّ التَّحولات الكبيرة في أرض الجزيرة، فلم تعد هناك موانع تحول دون الاعتراف بصاحب الفضل وتكريمه. لم يعد دعاة التَّنوير يحسبون عصاةً، كذلك أخذت الموانع المذهبيَّة تتساقط، والقول لصالح الجعفريّ(ت: 1979)، في وقت شبيهٍ، كان فيه الطُّغيان الدِّينيّ مهيمناً، الطّغيان نفسه الذي اغتال حسين مروّة، وحجب العليّ لسنوات، فبان الخطأ، قائلاً: «حناناً يا أماثلنا حناناً/ حناناً أيها المتزمتونا/ تبعناكم على خطأٍ سنيناً/ فأسفرت الحقيقة فاتبعونا»(الخاقاني، شعراء الغري). 
كانت عناوين شِعر العلي ونثره رسائل تدحض الظَّلام: «هموم الضَّوء»، «لا ماء في الماء»، «البئر المستحيلة محاولات لتجاوز السَّائد في الثَّقافة والمجتمع» وغيرها. 
أختم بما أراد العلي تعريف نفسه، وتلخيص جهوده: «أفضلُ ما أُعرَفُ به، بأني جاهدتُ في تغيير الفِكر الاجتماعيّ، وهذا يكفي». كان تكريم جِدَّةٍ للعلي، عبر معرض كتابها وجائزة الشِّعر، اعترافاً بذلك الجهاد، ربَّما تأخر، لكنْ حان الوقت «فأسفرت الحقيقة».

* كاتب عراقي