صرت مؤخراً أتبنى التسمية الاصطلاحية المختصرة «شرق المتوسط»، لأن مفاتيح العلاقات الدولية تغيرت، ومنظومة تحالفات الإقليم، من هلاله الخصيب (مشرقه العربي سابقاً)، وخليجه متمثلاً في دول مجلس التعاون، امتداداً نحو مصر غرباً وهضبة الأناضول شمالاً.. قررت تغيير أوانيها المستطرقة لتأخذ شكلاً جديداً مختلفاً يحاول تَحدّث لغة الزمن الراهن براهنية أوضاعه.
وقبل الاستطراد، أوضح مقصدي من الإشارة إلى «مشرق عربي سابق»، إذ كشفت أزماتُنا جميعُها، والتي تجلت في «التراجيديا السورية»، وقبلها بقليل التراجيديا العراقية، ثم أزمة اليمن الذي أضاع سعادته منذ زمن طويل، وكذلك الصراع العربي الإسرائيلي الذي انتهى إلى صراع متعدد المستويات بين دولة احتلال «بقوميتين فعلياً» مع مجموع فصائل متناحرة وفاسدة.. إذ كشف كل ذلك أن هناك قوميات عديدة متباينة بلغات مختلفة غير عربية وأديان وطوائف منها ما لم نعرفه، أو بمعنى أدق، كان مضطهداً بقمع الإخفاء والسيادة القومية أو الدينية المتوهمة.
كانت تلك الجغرافيا على الدوام حالة قلق متواتر وتوتر مزمن، وما تزال حتى اليوم، حيث انتهى الكل إلى منتصف عنق الزجاجة الضيق الذي إما أن يخرج منه الجميع نحو فضاءات خارج تلك الزجاجة التاريخية، أو السقوط في قاعها من جديد.
اللغة الجديدة، وهي جديدة فعلاً، تولدت من رحم النزاعات نفسها، أنتجتها ذات الأزمات كحل نهائي وذاتي لم يقدمه أحد من خارج المنطقة، وربما كانت المفارقة أن الحل الوليد من داخل الإقليم نفسه قد أنتجته أزمتان عالميتان لم تكونا من إنتاج الإقليم المعروف بتوليد الأزمات وتصديرها للعالم، وهما جائحة وباء كورونا ثم الحرب الروسية الأوكرانية الحالية.
اللغة الجديدة التي يحاول الجميعُ التحدث بها كلغة تفاهم مشترك ومفهومة، لا التباس فيها، هي لغة التعاون الإقليمي ووضع كل جهود التنمية ضمن مسار تعاوني مشترك وبتقسيم وظيفي يناسب الجميع.
طبعاً، لا يمكن توقّع خروج سلس وسهل من الماضي، لكن اللغة الجديدة قادرة حتى الآن على فرض نفسها، وبتمدد يتسع يوماً بعد آخر. والحاجة إلى متطلبات العيش في ظل جائحة صحية، وأزمة غذاء عالمي، ونقص في الطاقة التي تحرك كل شيء، مع إدراك عام بأن ثورة تكنولوجيا المعرفة قادرة على تجاوز الحدود والجغرافيا.. كلها عوامل تساهم في نشر المفاهيم الجديدة، لتحل محل لغة الماضي وتنسلخ عنه للدخول في عالم جديد بمنظومة علاقات جديدة ومختلفة كلياً.
لقد بدأ كثير من سكان الإقليم يدركون أن العالم يحتاج إليه، منقذاً من الجوع والبرد وقلة الموارد، بل وباستيراد أكثر من ذلك منه، وهذه المنتجات التي يحتاجها العالَم، والغرب خصوصاً، لا يمكن إنتاجها وتصديرها دون تفاهمات تتجاوز الحد الأدنى إلى تقاطعات مصالح وظيفية تتطلب شراكات حقيقية تقفز فوق المفاهيم السياسية التقليدية.
من المدهش والمبهج في وقت واحد، أن ترى دولة الإمارات العربية المتحدة على رأس قاطرة شرق المتوسط الجديد، بلغته الجديدة ومفرداته التكاملية المبتكرة، تطرح المشاريع الإقليمية وتقودها نحو عالم كله جديد بالكامل.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا