كثيرة هي التطورات التي أشرنا إليها مراراً والخاصة بتحول العالَم مجدداً إلى عالم متعدد الأقطاب، إلا أن القمم الثلاث التي عقدها الرئيس الصيني في المملكة العربية السعودية مؤخراً تعد التعبير الأقوى والأكثر بروزاً بحكم الثقل الاقتصادي والسياسي لدول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية والصين، باعتبارها اقتصادات ناشئة وسريعة النمو وتشترك في الكثير من السمات التي تجعل من تعاونها ذات تأثيرات اقتصادية وسياسية ستنعكس على مجمل الاصطفاف الجديد للقوى الدولية.

ومن أهم ميزات الجانبين، والتي يتعين أخذها بعين الاعتبار، أنهما يملكان برامجَ ورؤى حديثة تختلف عن سابقاتها تماماً، حيث تتكامل هذه الرؤى في قضايا اقتصادية وتكمل بعضها البعض. فدول مجلس التعاون لديها طموحها وبرامج تنموية تتطلب عملية تنفيذها العديد من العوامل، كالأسواق المستقرة والكبيرة لاستهلاك الطاقة والصناعات البتروكيماوية والأسمدة، في حين تملك الصينُ مشروعَها العالمي «الحزام والطريق»، وهو مشروع سيغيِّر خارطة الطرق التجارية واللوجستية والتحكم بها، في الوقت الذي تقع فيه دول المجلس على تقاطع هذا المشروع الحيوي وتملك بُنًى تحتيةً متقدمة لا مثيل لها في المنطقة ستساهم في رفد المشروع الصيني بالتسهيلات والخدمات المتطورة.

وهذا فضلاً عن التبادل التجاري المتنامي بين الطرفين، حيث أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لدول المجلس، وبلغ التبادل التجاري بين الجانبين العام العام الماضي 230 مليار دولار.

ويحدث هذا التقارب والتكامل في الوقت الذي تتباعد فيه المسافات بين دول المجلس وشركائها التقليدين بسبب تغير الالتزامات ومحاولات فرض أجندات تتعارض مع المصالح والقيم الخليجية، مما يعني أن هناك انسجاماً أكبر في الوقت الحاضر بين دول المجلس والصين، وهو ما أكد عليه الرئيس الصيني قائلاً: إن «الدول العربية لديها إمكانات هائلة من الموارد الطبيعية والصناعات المتميزة والإنجازات البارزة في البناء والحضارة العربية، وهي تدعو إلى الوسطية وترفض الصراع الحضاري، لذا تحتل هذه الدول موقعاً مهماً في الخريطة السياسية والاقتصادية في العالم».

واستجابةً لهذه التوجُّهات وقّعت السعودية أثناء زيارة الرئيس الصيني 34 اتفاقيةً استثماريةً في قطاعات الطاقة الخضراء، بما في ذلك الهيدروجين الأخضروالطاقة الكهروضوئية وتقنية المعلومات والنقل والصناعات الطبية والبناء والإسكان.. علماً بأنه سبق لدولة الإمارات توقيع العديد من اتفاقيات التعاون مع الصين، كما وقعت قطر اتفاقيةً طويلةَ المدى لإمداد الصين بالغاز الطبيعي.

وتتبين من طبيعة هذه الاتفاقيات الأهميةُ التي توليها دول المجلس لتحضير اقتصاداتها لفترة ما بعد النفط، من خلال التنويع الاقتصادي وضمان أسواق كبيرة لمنتجاتها في المستقبل، إذ اتفق الجانبان على التوصل لاتفاقية للتجارة الحرة وتأسيس مجلس مشترك للاستثمار. ويمثل التوجه الخليجي أحد أهم التوجهات العالمية للاتجاه شرقاً، بما في ذلك بعض الدول الأوروبية نفسها. فقد قام مؤخراً المستشار الألماني بزيارة لبكين وقَّع خلالها العديدَ من الاتفاقيات الاقتصادية المهمة، وذلك رغم الانتقادات التي وجهت إليه من شركائه في الاتحاد الأوروبي.

أما في أفريقيا فإن القوى الاقتصادية التقليدية، والتي تنامى نفوذها خلال عقود من استعمار القارة، بدأت تخلي مواقعَها تدريجياً لصالح تعاون جديد بين الأفارقة والقوى الناشئة، مثل الصين ودول مجلس التعاون وروسيا والهند.. التي تمنح أفضليات في تعاقداتها مع الدول الأفريقية. وبحكم المصالح التاريخية المشتركة، فإن دول المجلس تحرص في الوقت نفسه على استمرار تعاونها مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وهو ما يعبر عن حكمة هذه السياسات، إذ ليس المطلوب إقامة علاقات مع طرف على حساب طرف آخر، وإنما الأخذ بيعن الاعتبار التغيرات العالمية وموازين القوى وتقارب المصالح المشتركة مع كافة القوى.. بحيث توجه السياسات باتجاهين، الأول استغلال التغيرات العالمية لإقامة علاقات مع القوى الصاعدة لتعزيز المصالح الخليجية، والثاني إعادة ضبط العلاقة مع الشركاء الغربيين.

وهو توجه سيحقق لدول المجلس مكاسب كبيرة على طريق التنوع الاقتصادي وتقوية استقلالية القرار الخليجي في كافة المجالات، بما يتناسب والمصالح الخليجية بصورة أساسية.

*خبير ومستشار اقتصادي