في أعياد الكريسماس عام 1914، أي بعد خمسة أشهر من الحرب العالمية الأولى، وقع حدث رائع. لا أحد يعرف بالضبط كيف بدأت، لكن جنوداً فرنسيين وبريطانيين وبلجيكيين وألماناً على جانبي الخنادق بدؤوا في ترديد ترانيم الكريسماس، وألقوا أسلحتهم، ولعبوا كرة القدم معاً، وتبادلوا تحيات عيد الميلاد والهدايا.

ولم توافق أي حكومة على هدنة عيد الميلاد غير الرسمية هذه. ورُفضت نداءات من مجموعات المجتمع المدني والبابا الكاثوليكي الروماني بنديكتوس الخامس عشر، حثت على «أن تصمت المدافع على الأقل في الليلة التي غنت فيها الملائكة» إيذاناً بميلاد السيد المسيح.

والواقع أن بعض الجنود الذين شاركوا في الهدنة العفوية اعتبروا خونة وعوقبوا. وعلى الرغم من هدنة عيد الميلاد، استمرت الحرب أربع سنوات أخرى، وأودت بحياة ما يقرب من 15 مليون مقاتل ومدني. لكن الهدنة العفوية استمرت في التقاليد الأوروبية وألهمت صانعي الأفلام ورواة القصص والزعماء الدينيين لما مثلته من قوة الروح الإنسانية التي تعلو فوق الكراهية والانقسام في تعزيز السلام. ومع أخذ ذلك في الاعتبار، أطلقت «زمالة المصالحة» حملة من القادة الدينيين تدعو الحكومتين الروسية والأوكرانية لقبول هدنة عيد الميلاد في أوكرانيا من 25 ديسمبر إلى 7 يناير.

وجاء في نص النداء «بصفتنا أتباع إيمان وضمير، نؤمن بقداسة جميع أشكال الحياة على هذا الكوكب، ندعو إلى هدنة أعياد الكريسماس في أوكرانيا. وانطلاقاً من روح الهدنة التي وقعت في عام 1914 خلال الحرب العالمية الأولى، نحث حكومتنا على القيام بدور قيادي في إنهاء الحرب في أوكرانيا من خلال وقف إطلاق النار والتسوية التفاوضية، قبل أن يؤدي الصراع إلى حرب نووية قد تدمر النظم البيئية في العالم وتقضي على كل خلق الله». ووقع البيان من قبل أكثر من 1000 من القادة الدينيين واللاهوتيين المقيمين في الولايات المتحدة ويمثلون معظم الطوائف المسيحية والمسلمين واليهود والسيخ والبوذيين.

ومع تسارع عنف الحرب، في ظل الهجمات الروسية المكثفة على البنية التحتية لأوكرانيا واستخدام أوكرانيا للطائرات بدون طيار لقصف المنشآت داخل روسيا، لن يلتفت على الأرجح لهذا النداء القيادة الروسية أو الأوكرانية أو البيت الأبيض. والبغضاء بين الشعبين أفسدت عقائدهم الدينية. والغالبية العظمى من الأوكرانيين والروس مسيحيون أرثوذكس اتحدوا في الماضي تحت لواء بطريركية موسكو. فقد أعلنت الكنيسة الأوكرانية التي لم تشعر بالارتياح لفترة طويلة تحت قيادة موسكو، استقلالها في بداية الحرب بعد أن أيد البطريرك الروسي العملية العسكرية في أوكرانيا، وإعلانه أن الجنود الروس الذين قتلوا في المواجهات ضد الأوكرانيين سيغفر الله خطاياهم. وفي البداية، حثت البطريركية الأوكرانية ببساطة الكنائس الأرثوذكسية الأوكرانية البالغ عددها سبعة آلاف كنيسة على قطع العلاقات مع موسكو. لكن رئيس الوزراء فولوديمير زيلينسكي ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث دعا إلى حظر الكنائس الأرثوذكسية الأوكرانية التي تتماهى مع البطريركية في موسكو. وامتد هذا الانقسام إلى احتفالات الكريسماس.

وتحتفل الكنائس الأرثوذكسية بعيد الميلاد في السابع من يناير، بينما تحتفل بقية الكنائس المسيحية في الخامس والعشرين من ديسمبر. وانتقل الأوكرانيون الآن إلى الاحتفال بالكريسماس وفق التقويم الغربي أي يوم 25 ديسمبر. وهكذا، دعا منظمو «زمالة المصالحة» إلى الدعوة لهدنة تمتد على الأقل من 25 ديسمبر إلى السابع من يناير، حتى يحتفل كلا الشعبين بميلاد يسوع في سلام. وتوافر مساحة لهدنة، سواء بدعم من الحكومة أو الكنيسة الأرثوذكسية أو جاءت عفوية، أمر بعيد المنال. لكنه لا يجعل النداء أقل ضرورة.

وعلى عكس الحرب العالمية الأولى، لم يكن هناك من داع لخوض هذه الحرب كما أنها أوقعت خسائر فادحة في الأرواح البشرية، بينما دفعت الملايين إلى المنفى كلاجئين. وفي النهاية، لن يفوز أحد ولن تكون أوكرانيا وروسيا وحدهما في وضع أسوأ، بل أوروبا كلها ستصبح أسوأ حالاً.

ويمثل نداء زمالة المصالحة من الزعماء الدينيين دعوة مهمة للشعوب المسيحية في أوكرانيا وروسيا لإسكات صوت المدافع أثناء احتفال كليهما بعيد الميلاد. وقد لا ينصت المسؤولون للنداء، لكن على القادة الدينيين ألا يصمتوا. وقد لا تفلح الدعوة إلى هدنة عيد الميلاد في توفير فترة راحة لضحايا هذه الحرب القاسية، لكنها ستضع الزعماء الدينيين وغيرهم من الزعماء في الولايات المتحدة وأوكرانيا وروسيا في تحد لمواجهة مسؤولياتنا في السعي لتحقيق السلام، على الأقل أثناء الاحتفال بميلاد من يسميه المسيحيون «أمير السلام».

رئيس المعهد الأميركي العربي- واشنطن