ها هو الشرق الذي أُريد له أن يبقى حبيس البداوة ومظلوميات التاريخ يجترح اليوم عنواناً يليق به حتى وإنْ اعتبره سادة العصر تنمراً على استحقاقات الرجل الأبيض الذي استخرج النفط من تحت أقدامه.

فنحن من وجهة نظره أقل نضجاً من أن نفقه ضرورات حرق العراق وإعادة تقسيم المنطقة على أساس طائفي سياسياً، وأن تشكيل هوية وطنية لا تحاكي هيكل الهوية الدينية الصحوية الطائفية، يعد خرقاً لمواثيق الصداقة. السيد الأبيض يرى في تمدننا خروجاً من خيمة طاعته مهما غُلفت مواقفه ببلاغة الدبلوماسية.

حينما تستثمر الرياض وأبوظبي جزءاً من رأس مالهما السياسي دبلوماسيا تمتعض واشنطن دون سبب مثلما حدث في أمر جهدهما المشترك في إطلاق سراح الرياضية الأميركية برتني غراينر، ربما لتعارض ذلك والصورة النمطية للبدوي التي دأبت مؤسسة الحزب «الديمقراطي» على استحثاثها في الوجدان السياسي الأميركي. وعمق رفض التصالح مع واقع التحول السياسي والاجتماعي خليجياً يتجاوز إدارة الرئيس بايدن، إلا أنها الأكثر إرباكا وارتباكاً في إدارة علاقتها بالمنطقة استراتيجيا ولنأخذ الصين مثالاً، فهي تتمتع بعلاقة تجارية مميزة Most Favored Nations (أي الصين من قبل الولايات المتحدة) في حين تُصنف من الناحية السياسية «أخطر الخصوم السياسيين على أمن الولايات المتحدة».

وترى في نمو مسارات التجارة والاستثمار الخليجي الصيني المشترك تهديداً لمصالحها في منطقة نفوذ خالصة. وهنا تكمن إشكالية العقلية الأميركية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فهي ترفض المنطقية العقلانية ومتخبطة منذ إعلانها حربها على الإرهاب.

الولايات المتحدة لم تجرِ مراجعة استراتيجية واحدة لسبب خسارتها أو موجبات تفريطها في منطقة نفوذ استراتيجي (أميركا الجنوبية) والتي تعد أكثر حيوية للأمن القومي والاستراتيجي الأميركي لصالح الصين، وتصمت عن انضمام حليفتها الهند لكتلة «البريكس»، أو تخليها الطوعي وغير المبرر لباكستان، والتي باتت اليوم الممر البري والمنفذ الصيني المباشر على بحر العرب والمحيط الهندي، في حين نجدها ممتعضة من أي مقاربة خليجية صينية. تكمن علة عقلية أميركا في سوء تقديرها الاستراتيجي لمسؤوليتها القيادية دولياً، وترى في استقلالية صناعة القرار الاستراتيجي الخليجي تحدياً غير مبرر ومربكاً للتوازنات الإقليمية والدولية من منظورها.

ففي الوقت الذي نفت فيه الناطقة الرسمية للبيت الأبيض أي دور للرياض أو أبوظبي في إطلاق سراح الرياضية الأميركية غراينر، كان وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية معالي عادل الجبير يجري مباحثات عالية الأهمية في واشنطن حول الأولويات الثنائية من المنظور الاستراتيجي شرق أوسطياً، مما استوجب من الرئيس بايدن لاحقاً إصدار بيان شكر خاص لكل من الرياض وأبوظبي لجهودهما المشتركة في إطلاق سراح الرياضية الأميركية. حالة الارتباك التي تعاني منها واشنطن هي نتيجة طبيعية لإسرافها في تعاطي جرعات زائدة من دبلوماسية مرتبكة.

* كاتب بحريني