إذا ما تجاوزنا وضع الأخلاق في سياق المقارنة، مع العوامل التي شكلت مصادرَ أساسية في تكوينها أو التأثير عليها، من دين وعرف وعادات موروثة، فإننا نتجه نحو «عقلنة أخلاقية» بأبعاد جديدة. وقد ارتبطت المعرفة بشكل كبير في تكوين الاتجاهات الفكرية الإنسانية، وبالتالي بناء تصورات تقود لإرادة قوية، ذات بعد أخلاقي نابع من الإدراك العقلي.

وفي خضم المفارقات العجيبة التي يصر الإنسان اليوم على إقحام الدين فيها، وذلك النص الموروث كاجتهاد إنساني الخارج عن التقديس في صلب الأساس الأخلاقي، فإن الجانب الإنساني البحت يلح على الظهور، إذ الأنسنة ضرورية فيما تمثله من تثبيت للصفات الإنسانية، وإيلائها ما تستحق من أهمية مستقاة من الإنسان باعتباره كائناً اجتماعياً عاقلاً وصاحبَ عاطفة وتأثير، وعنصراً مهماً في معادلة التواصل والمشاركة.

إن النظر للكينونة الأخلاقية، والإجابة على أبرز تساؤلاتها، لا يكون من خلال استخدام عدسة خصصت للإمعان في غير ما مجال، وهذا لا يعني التقليل مما يحققه الوجود المعرفي من تكامل وتعاضد، وإنما هو تأكيد على ضرورة تحرير القراءة الأخلاقية من دوائر الاحتجاز المقتصرة على رؤية أخلاقية من منظور ديني بحت، أو تقليدي موروث بحت. وبخاصة أن ذلك يؤول لتصدير العديد من المفاهيم «الأخلادينية» التي لا تحقق ما تأمله الأخلاق من توسيع معرفتها، ولا الدين فيما يأمر به من استرسال في التفكير والاجتهاد، وهو ذات الأمر الذي شكل ربطة وثيقة على عنق الدراسات الأخلاقية من خلال تقييدها بقالب الموروث الجامد حين وصوله، مما يحول دون التطوير والإضافة التي مثلها ذلك التراث في عصره وظرفيته الزمانية.

إن تجميد الرؤى إزاء القيم الأخلاقية ومحاولة فهمها من خلال ترجمات غير مكتملة ولا متشابهة، يؤدي لتوليد قناعات فكرية بمسمى أخلاقي مفرغ من مضمونه، حاثاً على اتباع نسق قيمي منزوع القيمة، يؤول للتقليل من مكانة المرأة -مثلاً- أو عدم المساواة، أو التهوين من ضرورات التصقت بمستجدات زمانية.. ومن هنا لزم وجود مرجعية أخلاق أصيلة ذات رؤية معاصرة، تقرأ السياقات التاريخية وتتزن في وعيها بالموروث دون استنساخ ولا إهمال كلي. إن ما يثبت كل ذلك هو الوقوف على أطلال التجربة الإنسانية التي خاضت أقسى صراعاتِها ووقعت في فخ التفرّق والحروب حين فقدت الوعيَ الأخلاقي وتمسكت بأيديولوجيات ذات ارتباط ديني أو وجداني «مقحم قسراً». وما يمثل مشكلةً حقيقية هنا ليس الدين، والذي هو عامل وأساس مشرق لتثبيت رواسي القيم وتوجيه السلوك الإنساني لكل ما فيه الخير، بل تتمثل الإشكالية الكأدى في التحجر عبر قولبة الدين وفق أيديولوجيات «مجمَّدة».

ولطالما استنجدت المنظومة الأخلاقية بالعقل الإنساني المحفز لفتح آفاقها وتحريرها من قيود بعيدة عن حقيقة الأنسنة، بينما هي بحاجة ماسة للاستشعار بالبعد الإنساني وفهم خصوصياته بل والانطلاق منها.

إن الإلزام الديني والعقلي والعاداتي الموروث يتفاوت من بيئة إنسانية لأخرى، لكن الإلزامية الأخلاقية لا يمكن التملص منها، لا سيما أنها تمثل حالة مركبة من المعاني الفطرية والوجودية والمعرفية، يعود جزءٌ منها للأخلاق، وبعضها لطبيعة الأفعال، وبعضها الآخر راجع للآثار المترتبة على الفعل الأخلاقي نفسه، في حين لم تتوقف المحاولات ذات الطابع غير الإيماني عن البحث في إمكانية إنشاء المرجع الأخلاقي الواحد القائم على المنفعة والمصلحة، إلا أن ذلك لم يكتب له النجاح، لا سيما أنه يفتقد حلقةً هامةً تتمثل بأنسنة تلك الأخلاق التي يمكن وجودها بكل وضوح في التشريع الإلهي الذي وُضِع صوناً لمصلحة الإنسان وتذليلاً للصعاب أمامه، وللحث على الالتزام الأخلاقي.

وإن كان هذا الالتزام يمثل حالة مركبة بتمازج معان متعددة، فإن إنكار مصدر التشريع الإلهي يهدم الأسس، وهذا ما أيده الفيلسوف جون لوك.

وإذا آمنّا بطبيعة الاختلاف الفطري الكائن بين البشر، فإننا نوافق على فطرية اختلافهم السلوكي وتفاوت موازين الفعل الأخلاقي فيما بينهم، مما يعني عدم اتزان «حجر الأخلاق» وتقييدها ضمن نمطية متراتبة، لا سيما أن السلوك الإنساني لا يتسق ولا يتكامل بلا فعل أخلاقي «مؤنسن» يوازيه، لما له من رد فعل ينعكس على منظومة الواقع مؤثراً ومتأثراً.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة