إبقاء السلام على الأجندة الدولية، مهما عظُمت الصعوبات وكثُرت العقبات، ليس بالمهمة السهلة وإن لم تكن مستحيلة طالما أن الإرادة متوفرة ومثابرة. تلك هي الرسالة التي يواظب «ملتقى أبوظبي للسلم» على حملها، داعياً قادةً من كل الديانات ومن مختلف الأقطار والقارات إلى مواصلة تحريكها وتعميقها في العقول.

والعبرة أن الإصرار على إدراج قيم السلام في الخطاب العام يثبّت الفكرةَ ولا بد أن يثمر مع الوقت. ومع أن هذه الفكرة قد تبدو في بعض الفترات كأنها خارج السياق، إلا أن الأحداث والوقائع لا تلبث أن تضعها في صميم الواقع، وأن تُحتّم الحاجة إليها، تحديداً متى كانت الحرب عنواناً يومياً يشغل العالَمَ، كما هو اليوم، وبالأخص عندما تتمدّد الأزمات إلى كل مناحي الحياة وكل ما يمس الإنسان في حاجاته الأساسية.

حول شعار «عولمة الحرب وعالمية السلام» كان النقاش في الدورة التاسعة لـ«الملتقى» واضحاً في أن السلام هو الأصل وليس الحرب، مثلما أن العالمية بما تنطوي عليه من إعلاءٍ لشأن الإنسانية هي قبل العولمة التي تحوّلت سريعاً إلى حلبة لكل التنافسات المصلحية، وأحيَت بالتالي كل أشباح النزاعات والصراعات المستعادة من أزمنة كان يُعتقد أنها ولّت مع ويلات الحروب الكبرى.

وفي دعوته الملحّة إلى تغليب «قوة المنطق على منطق القوّة»، وإلى «اعتماد الحوار وسيلة وحيدة لحلّ النزاعات»، كان «ملتقى أبوظبي للسلم» ينبّه إلى ضرورة وضع خريطة طريق للسلم العالمي، وهو ما لن يحدث في غياب تعاون دولي جدّي وهادف لدرء خطر الحروب وتفعيل دور القيادات الدينية والروحية للإسهام في مواجهة الأزمات، إذا تعذّر عبر القيادات السياسية المتورّطة فيها. أظهرت الحرب الأوكرانية، بتداعياتها السلبية «المعولمة»، كم أن العالم، عدا عن القوى المنخرطة فيها، ينشد شيئاً آخرَ غير منازلات الأسلحة وتجريبها في القتل والتدمير. لكنها أظهرت أيضاً أن قادة مؤثِّرين، لا سيما في منطقة الخليج العربي، يرفضون الانجرار إلى أنماط من السياسة الدولية سادت ثم بادت رغم المحاولات الرامية لإعادة إحيائها.

وفي نهج هؤلاء القادة نفحة سلام لا بد أن يُعترَف بها ويُؤخذ بها، لأن فيها تنقيحاً لمفاهيم العولمة وما يُفترض أن تجلبه من خير إلى البشرية، عن طريق التنمية وتوفير الموارد والاستخدام الأمثل للتكنولوجيا وتحفيز الاقتصادات بتعزيز الأمن والاستقرار.. فكل ذلك يشتمل على خيار في السياسة لا يمكن أن يستقيم إلا بتقديم التسامح والتعايش على سموم الأيديولوجيات التي تصنّع التطرّف وتبثّ التفرقة والكراهية. والمفارقةُ أن دولاً كبرى كانت تروّج قيم الحداثة وتضغط على دول الاقتصادات الجديدة كي تتّبعها، بل تتوعّدها بالمحاسبة إن لم تفعل، لكنها في الوقت نفسه كانت وما تزال تعمل لإبقاء هذه الدول ومقدّراتها أدوات في خدمتها، وللتحكّم بأخذها الفرص المتاحة في عالم متغيّر.

هناك مقدار كبير من الجرأة يُمارَس اليوم من جانب دول ناهضة لتنويع علاقاتها وعدم حصرها بدولة واحدة، أو لوضع مصالحها الاقتصادية، من طاقة وغذاء ومكافحة أوبئة وتغيّر مناخي، في كنف دولة بعينها. لم يعد ممكناً، مستقبلاً، استنساخ أنماط الهيمنة أو تكرارها، بل الممكن هو التأسيس لعلاقات منفتحة ومتعددة الاتجاهات.

كما لم يعد مقبولاً أن تُساء إدارة شؤون الأمن والاستقرار العالميين على نحوٍ يستولد الحروب والمجاعات والمآسي وأن يُطلب من الدول أن تصطفّ وتنحاز. الفرصة متاحة للدول الكبرى كي تصحّح مسارات سياساتها. * كاتب ومحلل سياسي- لندن