انبنت وثيقة أبوظبي للأخوة الإنسانية الصادرة عام 2019 عن بابا الفاتيكان فرنسيس وإمام الأزهر الشيخ الدكتور أحمد الطيب، على تاريخ طويل من الأخوّة بين بني البشر، إذ هناك دليل مادي على أن الأخوّة الإنسانية كانت قائمة حتى قبل 15 ألف سنة.. وإليكم الدليل:
وُجّه سؤال إلى أحد علماء الأجناس البشرية (الانتربولوجيا)، وهو الدكتورة مارغريت ميد، عن العلامات الأولى للأخوّة الإنسانية. وكان هذا السؤال قد وُجه إلى علماء آخرين من قبل، فمنهم من رأى أن اختراع الآلة (الحجرية) كان البداية الأولى، ومنهم من أعطى الزراعةَ الأولوية على كل ما عداها، ومنهم من ذهب إلى الفنون (الرسوم في الكهوف والمغارات).. إلخ. غير أن الدكتورة ميد قدّمت إجابةً مختلفة بالكامل، إذ قالت إن البداية كانت العناية بالضعفاء، وقدّمت لذلك الدليل التالي:
لقد عثر العلماء على فخذ إنسان عاش قبل 15 ألف عام. كانت الفخذ مكسورة وملتحمة، وهذا يعني أن الشخص المعني بعد أن تعرّض لحادث أدى لكسر فخذه خضع للعناية حتى التأم الكسر واستعاد المريض صحتَه.
تحتاج مرحلة التئام الكسر إلى ستة أسابيع على الأقل. وخلال هذه المدة الطويلة، لا بد أن هذا الإنسان كان موضع عناية ورعاية، بسبب عدم قدرته على الحركة. ذلك أنه خلال أسابيع المعاناة كان صاحب الفخذ المكسور عاجزاً عن الصيد وعن الحركة.. بل عاجزاً حتى عن الدفاع عن نفسه إذا ما تعرّض لهجوم من حيوان مفترس. كان يحتاج إلى مَن يحميه ويدافع عنه، وإلى مَن يعتني بشؤون وحاجاته من توفير الطعام والشراب.. وهذه العناية هي الترجمة العملية الأولى للأخوّة الإنسانية. وقد اعتبرت الدكتورة ميد أن المشاعر التي ترجمتها العنايةُ بالضعيف تشكّل العلامةَ الأولى على الأخوّة الإنسانية.
ويلاحظ علماء الانتروبولوجيا أن الفترة اللازمة للعناية بالطفل الإنسان بعد ولادته أطول كثيراً من تلك التي يحتاج إليها صغير الحيوان. ويعتبرون أن ذلك ليس دليلاً على الضعف، بل دليل على القوة، لأن الحضانة الأطول تؤدي إلى عاطفة أكثر.. وبالتالي إلى مشاعر أعمق.
ويلاحظ هؤلاء العلماء أيضاً أن الحياة القبلية والعشائرية، حيث الجميع يعتمد على الجميع، تؤدي أيضاً إلى مثل هذه المشاعر وتنمّيها وتعززها.
وقد جاءت «العولمة» حديثاً لتدفع بالعلاقات الإنسانية في هذا الاتجاه، إلا أن الأنانية وحبّ الذات والحذر من الآخر المختلف حتى الرهاب منه.. كل ذلك أدى إلى تعطيل البعد الإنساني للعولمة، وأبقى على أبعاد التبادل المالي والتجاري. ومما زاد الأمر سوءاً توظيف الدين في الصراعات السياسية.
ومن هنا كانت أهمية وثيقة أبوظبي للأخوّة الإنسانية؛ فهي لم تعمل فقط على فك الارتباط بين الدين والصراعات السياسية، ولكنها أيضاً أعادت للدين دورَه الراقي في تثبيت دعائم الأخوّة الإنسانية.
جرت محاولات لتشويه هذا الدور، بما في ذلك عمليات لإقصاء الآخر وإلغائه، فصدر كثير من الأحكام السلبية المسبقة، وانتشرت مشاعر الكراهية والدونية، ونسفت جسور الاتصال والتواصل، وانتصبت المعسكرات المتقابلة مسلحةً بالأحكام والصور النمطية المسبقة.. غير أن وثيقة الأخوّة الإنسانية قلبت هذه الطاولة بكل ما كان عليها من صحون العداءات الوهمية رأساً على عقب. وأعادت الاعتبار إلى الطبق الرئيس، أي الأخوة الإنسانية باسم الدين وانطلاقاً منه.
ومن هنا أهميتها كوثيقة غير مرتبطة بزمان وغير محصورة في مكان. ولو أن الله سبحانه وتعالى بعث صاحبَ الفخذ المكسورة قبل 15 ألف سنة (كما حدث مع أهل الكهف)، لقدّم نفسَه شاهداً على صحة هذه الأخوّة وأبديّتها.

*كاتب لبناني