في 19 أبريل 1965، كتب مهندس الإلكترونيات غوردون مور، الذي سيصبح في وقت لاحق رئيساً تنفيذياً لشركة «إنتل»، مقالا بعنوان «تجميع مكونات أكثر في الدوائر المتكاملة» بمجلة «إليكترونيكس» المتخصصة. في هذا المقال الشهير، قام مور باستنتاجات انطلاقاً من ملاحظاته في قطاع شبه الموصلات الناشئ بالقرب من مدينة سان فرانسيسكو، وتمكن من التنبؤ بشكل صحيح بمستقبل الحوسبة كلها. واستطاع، على الخصوص، التنبؤ بأن عدد الترانزستورات التي يستطيع مهندس تجميعها في شريحة من السليكون ستتضاعف كل سنتين تقريباً. هذا التوقع ثبتت صحته على نحو مبهر على مدى العقود الماضية لدرجة أنه بات يعرف الآن بـ«قانون مور». فقبل 60 عاماً، كان يمكن وضع أربعة ترانزيستورات فقط على شريحة. أما اليوم، فقد بات من الممكن وضع 11,8 مليار ترانزيستور.
و«قانون مور» هذا مهم ومركزي بالنسبة للوتيرة السريعة لكتاب كريس ميلر الجديد «حرب الرقائق»، الذي يرصد تطور رقائق أشباه الموصلات وانتشارها واستخدامها الاستراتيجي، والتي باتت تحرِّك الآن كل شيء تقريباً من السيارات إلى اللُّعب إلى الصواريخ. ميلر، الذي يدرِّس القضايا الدولية بجامعة تافتس الأميركية، يجلب خبرتَه في التاريخ الروسي والصيني إلى هذا القطاع الذي تحتكره وتمتلك ناصيتَه شركاتٌ قليلةٌ في العالم تصنع الرقائق إلى جانب الأدوات والمسابك الدقيقة جداً التي تنتجها. وفي الختام، يخلص الكتاب إلى أن صناعة الرقائق باتت تحدد الآن كلا من بنية الاقتصاد العالمي وتوازن القوة الجيوسياسية. 
شخصيات الكتاب غريبة على نحو إيجابي. ومن أبرز هؤلاء ويليام شوكلي، عالم الفيزياء الحائز على جائزة نوبل. شوكلي ساهم في اختراع الترانزيستور، الذي يشكّل اليوم الجزءَ الأكبر من المكونات التي يتم تجميعها بالمليارات على رقائق السيليكون، والتي حلّت محل الأنابيب المفرغة (أو الصمامات المفرغة) في الحواسيب الأولى. 
في عام 1995، أسّس شوكلي شركة «شوكلي سيميكونداكتر» في مدينة ماونتن فيو، بولاية كاليفورنيا، حتى يكون قريباً من والدته المسنّة التي كانت تعيش في مدينة بالو آلتو. وهذا أحد الأسباب التي تفسّر لماذا تُعد منطقة خليج سان فرانسيسكو موطن أشباه الموصِّلات الأصلي. لكن التأسيس الفعلي لمنطقة «السيليكون فالي» يعود إلى «الخونة الثمانية»، وهم مجموعة من المهندسين -كان مور واحداً منهم- الذين انفصلوا عن شوكلي في عام 1957 لأنه كان سيئاً جداً وغير قادر على التفكير تجارياً، على ما قيل. أسّس الرجال الثمانية شركة «فيرتشايلد سيميكونداكتر» بشكل جماعي. وتزعمهم بوب نويس، مخترع الرقاقة الإلكترونية. وأسّس نويس لاحقاً شركة «إنتل» مع مور، واشتهر حتى وفاته بلقب «عمدة السيليكون فالي». 
في البدء، رغب السوفييت في جزء من لعبة الرقائق. ويصف ميلر كيف أدت التبادلات السرية للأبحاث في مجال أشباه الموصلات بين موسكو وجامعة ستانفورد في عقد الستينيات إلى سباق تسلح خلال الحرب الباردة غطّى على سباق الأسلحة النووية. وكان المسؤولون البيروقراطيون السوفييت في عهد نيكيتا خروتشوف جد مهووسين باللحاق بالولايات المتحدة لدرجة أنهم رفضوا السماح للعلماء السوفييت بمتابعة شغفهم، ما أجبرهم على القيام بالعمل غير المشرف المتمثل في نسخ ومحاكاة الدوائر المتكاملة التي تنتجها «تكساس إنسترومانتس»، وهي شركة أميركية أخرى من الشركات الأولى لصنع أشباه الموصلات. وبهذه الطريقة، تأخروا عن الركب وعجزوا عن المواكبة، بينما مضى مهندسو الرقائق إلى مراحل متقدمة وسرعات أعلى، تماشياً مع «قانون مور». 
الفشل الأوروبي في استيعاب أهمية الترانزيستورات تعكسه على نحو جيد قصةٌ دالة ومعبّرة حول الرئيس الفرنسي شارل ديغول الذي رفض جهاز راديو ترانزيستور أهداه إياه رئيس الوزراء الياباني آنذاك هاياتو إيكيدا في عام 1962. ويبدو أن ديغول أنَفَ عن الراديو ونفر منه، معتبراً أنه جهاز للبورجوازية الصغيرة. لكن بعد سنوات طويلة على ذلك، وفي هولندا تحديداً، حققت أوروبا اختراقاً خاصاً بها في هندسة الرقائق، مع اختراع الطباعة الحجرية باستخدام الأشعة فوق البنفسجية المتطرفة.
أكيو موريتا الذي ساهم في تأسيس شركة «سوني»، لاعبٌ رئيسي آخر في عالم الرقائق الإلكترونية، إذ كان أحد رواد استخدام الرقائق في الأجهزة الإلكترونية المنزلية. رفض موريتا مواصلةَ إنتاج شراب «الساكي» الياباني، النشاط الذي توارثته عائلتُه عبر أجيال، مؤْثراً التركيز بشكل كامل على الترانزيستورات في عقد الخمسينيات، وأنشأ شركة ينسب لها الفضل في إعادة إحياء الاقتصاد الياباني بعد الحرب، عبر بيع منتجات مثل أجهزة الـ«وُوكمان» للأسواق الأميركية. 

أما الصين فإن ما فشلت في القيام به خلال عهد الرئيس شي جين بينغ، حسب المؤلف، هو أخذ حصتها المتوقعة من سوق الرقائق. والواقع أنه بفضل دعم كبير من الحكومة، تنتج الصين حالياً 15 في المئة من رقائق السيليكون العالمية، وفقاً لإحصائيات ميلر، وهي حصة ضئيلة نسبياً من الكعكة، في وقت من الواضح فيه أن الصين لا تستطيع الاعتماد على الرأسمال الخاص الذي يتدفق على قطاع أشباه الموصلات في بقية شرق آسيا. ومن أبرز المستفيدين من هذا التدفق، اليابان (تصنع 17 في المئة من رقائق العالم حسب أرقام ميلر) وتايوان (تستحوذ على نسبة 41 في المئة).
وتظل تايوان معقل صناعة رقائق السيليكون في العالم. على رأس هذا القطاع يوجد موريس تشانغ، أستاذ الدبلوماسية الاقتصادية ومؤسس شركة «شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات» («تي إس إم سي») ومصانعها الرائدة في إنتاج الرقائق، وهو الآن في سن الحادية والتسعين ويلقب عالمياً بـ«إمبراطور عالم الرقائق». بعد أن نشأ بين الصين وهونغ كونغ البريطانية خلال الحرب الصينية اليابانية الثانية، سافر تشانغ إلى الولايات المتحدة حيث أكمل شهادة في الهندسة بـ«معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، ولاحقاً حاز على شهادة دكتوراه من جامعة ستانفورد. وفي عام 1958 حطّ رحاله بشركة «تكساس إنسترومانتس»، حيث ركز على تطوير وتحسين آلات صنع الرقائق التي أصبحت (وما زالت) مركزاً للابتكار ولرقائق السيليكون نفسها. 
وفي ما تبين لاحقاً أنه خطأ فادح، لم تستفد «تكساس إنسترومانتس» من خبرات تشانغ ولم تعيّنه رئيساً لها في أوائل الثمانينيات. ولهذا، وتلبية لدعوة من تايبيه، توجَّه تشانغ إلى تايوان، حيث أسس «تي إس إم سي» كمجموعة من المسابك فقط، أي أنها تكتفي بصنع الرقائق لفائدة شركات أخرى ولا تصنع منتجات إلكترونية نهائية. وبهذه الطريقة، استطاعت «تي إس إم سي» التركيز على زيادة الكفاءة والفعالية في مسابكها مع العمل في الوقت نفسه مع أكبر مصممي الرقائق، وخاصة «آبل». 

محمد وقيف

الكتاب: حرب الرقائق.. التنافس على أهم تكنولوجيا في العالم
المؤلف: كريس ميلر
الناشر: سكريبنر
تاريخ النشر: أكتوبر 2022

عن خدمة «نيويورك تايمز»