بانسحاب القوات الروسية من مدينة خيرسون جنوبي أوكرانيا في نوفمبر الجاري، وإعادة نشر هذه القوات في الضفة الشرقية لنهر دنيبرو، ربما تتجه الحرب الروسية الأوكرانية إلى مرحلة رابعة من تطورها هذا الشتاء، قد تمهد السبيلَ إلى تسويةٍ سياسية للحرب. فبعد اجتياح القوات الروسية الحدودَ الأوكرانيةَ في 24 فبراير الماضي، في «عملية عسكرية خاصة»، حاولت موسكو احتلال العاصمة كييف وإسقاط نظام حكم الرئيس فولوديمير زيلينسكي الموالي للغرب.

لكن تعثر إتمام هذه المهمة جراء المقاومة الأوكرانية الشرسة المدعومة بمساعدات أمنية غربية هائلة، اضطُرَّ موسكو إلى تعديل استراتيجيتها الحربية في أواخر مارس الماضي، بالتخلي عن المهمة الأولى والتركيز، بدلاً من ذلك، على إكمال السيطرة على إقليم الدونباس شرقي أوكرانيا، الذي يضم جمهوريتي دونيستك ولوهانسك اللتين اعترفت موسكو باستقلالهما قبل بدأ الحرب، وتأمين ممر بري يربط الإقليم بشبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014.

ولولا الهجوم الأوكراني المضاد منذ أواخر أغسطس المنصرم، لكانت روسيا حققت أو على وشك تحقيق أهداف استراتيجيتها المعدَّلة. فقد تمكنت القوات الروسية من إكمال سيطرتها على مقاطعة لوهانسك في أواخر يوليو، وحققت مكاسب كبيرة في دونيتسك، فضلاً عن أن التقدم الذي أحرزته في الجنوب في بداية الحرب كان يكفل لها تأمين الممر البري المطلوب. بيد أن الهجوم الأوكراني المضاد على كل الجبهات، والذي أشر لبداية المرحلة الثالثة من الحرب، أربك حسابات روسيا العسكرية.

فبالإضافة إلى ما حققته القوات الأوكرانية من مكاسب كبيرة في الشمال (ما أنهى عملياً وجود جبهة هناك) والجنوب وتقدمها نحو الشرق، سارعت موسكو بتنفيذ خطة معدة مسبقاً (لم تكن الظروف على الأرض مهيأةً لتنفيذها) تتعلق بإجراء استفتاء شعبي في مقاطعات أربع في الشرق (مقاطعتي إقليم الدونباس) والجنوب (خيرسون وزابوريجيا) ثم ضمها للاتحاد الروسي في أكتوبر، رغم أنها لم تكن تسيطر عليها جميعاً. وتحت ضغط الهجمات الأوكرانية في الجنوب، أعلنت روسيا الانسحاب من مدينة خيرسون، لأنه لم يعد ممكناً الدفاع عنها، بحسب بيان وزارة الدفاع الروسية. وتتجه القوات الأوكرانية في الأسابيع القادمة إلى تأمين سيطرتها على المدينة. وربما يؤشر ذلك لدخول الحرب، لاسيما مع اقتراب فصل الشتاء، في مرحلة رابعة، حيث يسود الجمود على كافة الجبهات، ما قد يشجع الوسطاء الدوليين على طرح هدنة، قد تمهد السبيل لاستئناف العملية السياسية بين كييف وموسكو لتسوية الصراع.

وثمة عدة عوامل تؤيد هذا السيناريو، أهمها أنّ القوات المتحاربة وصلت إلى مرحلة الإنهاك بعد أكثر من ثمانية أشهر ونصف من القتال. ولا يختلف الحال كثيراً بالنسبة للظهير المدني للقوات المتحاربة في أوكرانيا وروسيا، والذي قد يضغط على الحكومتين لاستئناف التسوية السياسية. وقد أعلنت روسيا نفسُها مؤخراً أن أهداف عمليتها العسكرية الخاصة يمكن تحقيقها عن طريق مفاوضات السلام، وأعلنت أوكرانيا أنها «مستعدة للسلام».

والأهم من ذلك أن الغرب سوف يضغط على روسيا عن طريق استمرار الدعم السياسي والعسكري لأوكرانيا، أكثر من ذلك، لأن البديل هو الانفجار، أي لجوء روسيا إلى توظيف الأسلحة النووية، ولو كانت تكتيكية، لحسم الحرب، ما قد يفتح أبواب جهنم على الجميع! ولم يكن مفاجئاً أن تتحدث الأخبار عن إجراء محادثات بين الولايات المتحدة وروسيا، في 14 نوفمبر الجاري بتركيا، بمبادرة من الأولى، حول أوكرانيا.

*خبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية