يطرح «المنتدى الدوليّ للاتصال الحكوميّ» بالشَّارقة، منذ دورته الأولى (2012)، أفكاراً يضعها أمام الحكومات وجمهورها، تُسهل الاتصال بالنَّاس، وبالتَّالي مشاركتهم في التَّطوير والإنجاز، إلى جانب آراء للتعايش وبث روح التَّسامح بين الثَّقافات.

طُرحت في موسم هذا العام أفكار خصت بالتسامح والتَّعايش بين الشُّعوب، قدمها وزير التسامح والتعايش الإماراتي الشّيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وكانت بعنوان «ثقافات متوازنة.. علاقات متكافئة»، ذاهباً إلى أنَّ تحقيق التوازن يشترط احترام الخصوصية، فزمن الثقافة المهيمنة المفترسة قد ولى.

تجد مدينة صغيرة تتجاور داخلها ثقافات عدة، والعالم، قبل ألف عام، حسب ما نقل أبو حيان التَّوحيديّ (ت: 414 هـ)، شُبه بخاتم الإصبع: «الأمكنة في الفلك، أشد تضامَّاً من الخاتم في أصبعك، وليس لها هناك هذا البعد، الذي تجده بالمسافة الأرضية من بلد إلى بلد، بفراسخ تقطع، وجبال تعلى، وبحار تخرق» (الصَّداقة والصَّديق). لكنّ حيث تُهتك الخصوصيَّة يحل الإقصاء وبالتَّالي الكراهيَّة. بعدها قدم الرَّئيس المكسيكي السَّابق فيليبي كالديرون مداخلة عن البيئة والمناخ، وعنوانها «النُّمو الأخضر.. آليات اتخاذ القرارات». ركز فيها على السّياسات البيئية، كقنوات جديدة بشأن المناخ، بعد أنْ أصبح رئيسي في سياسات الدُّول، لأنَّ تغيراته المخيفة تهم العالم، ولا يجب ترك النّمو الأخضر للطبيعة فقط، والماء ينقص والحرارة تزيد. ثم قدمت رئيسة وزراء كندا السابقة كيم كامبل خطاباً عنوانه «الإشراك الحكوميّ في اتخاذ القرارات»، فهناك أسماء عديدة للحكومات بالعالم، لكنْ ليست واحدة منها مناسبة للشعوب كافة، فكلّ واحدة، حسب طبيعتها، تُحدد علاقتها بجمهورها، وحسب قولها: «هذا هو ما يُسمَّى بالاتصال الحكوميّ»، والشَّفافيّة بين الحكومة والجمهور ليست متوقفة على نوع واحد مِن الحُكم. غير أنَّ ما أثار استغرابي في البداية، مَن قُدم بلقب «بطل العالم في إلقاء الخطابة» لعام 2015، وكنتُ أجهل هذه المباراة الدوليَّة، متوقفاً عند خطباء «سوق عكاظ».

خرج محمد القحطاني، سعوديّ عسيريَ، يتحدث عن حُبسَةُ لسانه، يوم شله معلمُه بكلمة انتهكت طفولته، وظل هكذا حتَّى وجد مَن حلَّ عقدة لسانه بكلمة أيضاً، حتَّى تجرأ وشارك في المسابقة الدُّوليَّة، التي تُعقد بأميركا منذ 1938، ففاز بخطبته «قوة الكلمة» مِن بين ثلاثين ألف متقدم. كانت ومازالت حُبسَةُ الكلام معضلةً، ومعلوم أنَّ النَّبيّ موسى عُرف بـ«كليم الله» بعد حُسبة لسانه، جاء في الآية: «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي» (طه: 27-28)، «كانت فيه، فيما ذُكر، عُجمة عن الكلام» (الطَّبريّ، جامع البيان)، والعجمة عكس الفصاحة، ولأبي تمام (ت: 231هـ): «فصيحٌ إذا استنطقته وهو راكبٌ/ أعجم إنْ خاطبته وهو راجل» (الثَّعالبيّ، يتيمة الدَّهر).

ذكر الجاحظ (ت: 255 هـ) الحُبسَةُ مثلما هي عند القحطاني، وأصحاب اللَّثغة، وأشنعها تظهر في الرَّاء، التي، بالتَّحايل على الحُروف، تغلب عليها مؤسس المعتزلة واصل بن عطاء (ت: 131هـ)، فألقى خطبة طويلة خالية مِن الرَّاء (خطبة واصل بن عطاء، ليدن 1988). فقيل فيه: «ويجعل البُرَّ قمحاً في تصرفهِ/ وخالفَ الرَّاءَ حتَّى احتال للشِّعرِ/ ولم يطقْ مطراً والقول يعجلَه/ فعاد بالغيثِ إشفاقاً من المطرِ».

كذلك قيل بالألثغ محمد بن شبيب المتكلم «عليم بإبدال الحروف وقامعٌ/ بكلِّ خطيبٍ يغلب الحقّ باطله» (الجاحظ، البيان والتَّبيين). لكنّ ما علاقة حُبسَةُ الكلام بمنتدى مثل «الاتصال الدُّولي للحكومي»؟! إنها قوة الكلمة، كيف تُقدم مقترحك ورأيك وتأثيرك، الكلمة التي جعلت القحطاني متلعثماً لسنوات، وأخرى رفعته وأنطقته ليكون بطلاً بالخطابة.

* كاتب عراقي